رفسنجاني: سيرة ذاتية

كان رفسنجاني رمزاً بارزاً عبر نهجه البراغماتي على مدار حياته السياسية الحافلة والطويلة؛ إذ لم يتردَّد عن تغيير خطّه السياسي إلى ذلك الذي يتطلَّبه الوضع. فحلَّ اليوم الذي نظر إليه فيه أعداء الأمس على أنَّه أملهم الوحيد

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/25 الساعة 07:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/25 الساعة 07:50 بتوقيت غرينتش

مقدمة:

علي أكبر هاشمي رفسنجاني، أحد أهم اللاعبين السياسيين في إيران، والرجل الذي اضطَّلع بأدوارٍ حاسمة في بعضٍ من أكثر الفترات حساسيةً منذ قيام الثورة الإسلامية في 1979 وحتى وقتنا الحاضر، وافته المنية جرَّاء نوبةٍ قلبية عن عمرٍ ناهز 82 عاماً، ورغم عُمره المتقدِّم، لم تكن وفاة رفسنجاني شيئاً متوقَّعاً، وجاءت بمثابة صدمةٍ للشعب الإيراني، وأحد الأسباب التي جعلت الأمر مفاجئاً هو أنَّه لم تكن هناك أية أنباء أو مؤشراتٍ مسبقة حول كونه مريضاً، وسببٌ آخر هو أنَّه كان يُعتَقَد أنَّ رفسنجاني قد يتدخَّل في التطورات الحاسمة التي يُتوقع أن تشهدها السياسة الإيرانية على المدى القريب، وفي أعقاب وفاة رفسنجاني، أُعلِن أنَّه ستكون هناك ثلاثة أيامٍ من الحداد، ويوم عطلةٍ واحد؛ وكانت الشخصية الوحيدة التي حظيت بمعامةٍ مماثلة هو آية الله الخميني، القائد المؤسِّس للثورة الإسلامية، في الواقع، من الممكن القول إنَّ رفسنجاني هو الشخصية الأهم منذ الخميني؛ إذ كان أحد أهم اللاعبين في الثورة، إلى جانب بهشتي وخامنئي. وقد قُورِن رفسنجاني من قِبَل أنصاره بالأمير الكبير، ميرزا محمد تقي خان فراهاني، أحد أهم الشخصيات في التاريخ السياسي الإيراني، وللمصادفة المثيرة، فقد توفي رفسنجاني في نفس يوم وفاة الأمير، ولفهم تلك الأهمية التي يحظى بها الرجل، يجدر النظر إلى حياته، واستشراف الاحتمالات المستقبلية الممكنة أمام إيران.

حياته:

وُلِد رفسنجاني في عام 1934 لعائلةٍ ثرية كانت تمتلك أراضي ورُقعةً واسعةً مزروعة بالكرو، قرب مدينة رفسنجان. وفي صباه، اختار التعليم الديني، وذهب إلى "قُم" سعياً وراء المزيد منه في سن الـ14، تلقَّى العلم على يد أبرز علماء الدين في تلك الفترة، كانت الفترة التي ذهب فيها رفسنجاني إلى قُم لتلقّي تعليمه الديني هي تقريباً الفترة نفسها التي شهدت حركة تأميم احتياطيات النفط الإيراني، وعليه، تعرَّض رفسنجاني حينها، في هذه السن المبكِّرة، إلى الخطاب السياسي للمرة الأولى، وبدأ نشاطاته السياسية. وفي أعقاب الإطاحة بمصدق، رئيس الوزراء الإيراني المسؤول عن عملية التأميم، في انقلابٍ عسكري، شرع رفسنجاني ومجموعةٌ من أصدقائه في نشاطاتٍ ثقافية، وأصدروا مؤلفاً عنونوه "مدرسة التشيع"، وعندما بدأت حركة آية الله الخميني، أخذ رفسنجاني موقعه فيها، وبدأ نشاطاتٍ علنية مناهضة للشاه، شارك رفسنجاني في كل مرحلةٍ من مراحل حركة آية الله الخميني، وسرعان ما وصل إلى مكانةٍ جعلته بالغ الأهمية في النضال ضد الشاه، وسُجِن عام 1975، لكنَّه بدأ نشاطاته من جديد بمجرد أن حرَّرته الثورة من السجن، واضطَّلع ببعض أكثر المهمات أهميةً في النظام حتى يوم وفاته، وباعتباره واحداً من أقرب الأشخاص إلى آية الله الخميني، عُيِّن في "مجلس الثورة الإسلامية"، وكذلك في "مجمع علماء الدين المجاهدين".

داخل البنية السياسية الإيرانية، كان "المجمع" أقوى تجمُّع ديني – سياسي لرجال الدين، وعلى مدار فترة طويلة، كان تقريباً جميع رجال الدين الذين دعموا الثورة الإسلامية أعضاءً فيه، ومع ذلك، وفي مرحلةٍ لاحقة، غادر الجناح الإصلاحي هذا المجمع، وشرعوا في تنظيم مجمعهم الخاص.

كان رفسنجاني كذلك أحد مؤسِّسي الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي اضطَّلع بدور القاطرة التي قادت النظام إلى وضعه الراهن، وقد أُسِّس هذا الحزب، الذي كان بمثابة الحزب المؤسِّس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، عام 1981. وكان من بين المؤسِّسين أسماءٌ أخرى، من بينها آية الله محمد بهشتي، ورئيس الوزراء السابق محمد جواد باهنر، وآية الله الخميني، وآية الله عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، وكان آية الله بهشتي هو السكرتير العام الأول للحزب، وكانت صحيفة "الجمهورية الإسلامية"، التي لا تزال مُتداولة، هي الناطقة الرسمية بلسان الحزب، ووُضِعَ الهدف، واللوائح، وخارطة طريق الحزب وفقاً للفقه الإسلامي، لكنَّ الخلاف حول ديناميكيات الفقه الحديث والتقليدي تسبَّب في انقسام الحزب إلى مجموعتين: "التقليديين"، أو الكتلة اليمينية، وقد دعموا فكرة اقتصاد السوق الحرة، ورغبوا في أن تلعب الدولة دوراً أقل في الشؤون الاقتصادية. و"التحديثيين"، أو الكتلة اليسارية، وقد رغبوا في نظامٍ اقتصادي مغلق تديره الدولة.

لعب رفسنجاني دور العضو المؤسِّس، والفاعل النشط بالحزب، وهو ما كان يعني القيام بدور محوري في التخلُّص من العديد من المجموعات والأفراد المعارضين، وعلى وجه الخصوص حركة "بني صدر" (نسبة إلى أبو الحسن بني صدر هو أول رئيس لإيران بعد الثورة الإسلامية، وقد اختلف مع الخميني فعُزِل ثم فرَّ من البلاد على أثر ذلك) وحركة "حرية إيران" (وهي حركة معارضة من فترة ما قبل الثورة، وشغل أعضاؤها أغلب مناصب الحكومة المؤقتة التي تلت الثورة الإسلامية، لكنَّها سرعان ما استقالت). وقد وُجِّهت ادِّعاءاتٌ حول تصفياتٍ وإعداماتٍ للشخصيات المعارضة باستمرارٍ إلى رفسنجاني خلال فترة رئاسته. وعندما تسبَّب هجوم مطعم ميكونوس، وهو هجومٌ اغتِيل فيه قادة في المعارضة الكردية الإيرانية في أحد مطاعم برلين، في أزمةٍ دولية، ظهرت المزيد من الادِّعاءات حول هذا الشأن. وكان رفسنجاني قد أصبح سكرتيراً عاماً لوزارة الداخلية بعد أشهرٍ قليلة على الثورة، وكجزءٍ من مهام منصبه، قام بالترتيب لانتخابات مجلس صياغة الدستور (الذي سيكتب دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، وكذلك الاستفتاءات الدستورية، والانتخابات الرئاسية، وعندما حلَّ وقت الانتخابات البرلمانية، استقال من منصبه ليصبح مرشَّحاً برلمانياً، وقد فاز، ثُمَّ انتُخِب على الفور مُتحدِّثاً باسم البرلمان، وعلاوة على ذلك، شارك في انتخابات مجلس خبراء القيادة، الذي كان يمتلك سلطة اختيار، وفحص، وعند الضرورة، عزل المرشد الأعلى. وعندما نشبت الحرب الإيرانية – العراقية، لعب أدواراً هامة في الحرب، وحينما أصبحت الحرب قضيةً حسَّاسة داخل إيران، عيَّنه آية الله الخميني رئيساً لهيئة الأركان المشتركة، وكان هو الوجه الأبرز من الجانب الإيراني في فضيحة إيران – كونترا التي تفجَّرت عام 1986.

ووفقاً لتقارير، فإنَّ الولايات المتحدة قد باعت أسلحةً إلى إيران، واستخدمت العائد في دعم الحركة المناهضة للشيوعية في محاولة للإطاحة بحكومة نيكاراجوا الشيوعية في ذلك الوقت، ويُنظَر إلى رفسنجاني باعتباره الشخص الذي أقنع الخميني باتِّخاذ أحد أكثر القرارات أهميةً في تاريخ الجمهورية الإٍسلامية الإيرانية (التعامل مع الولايات المتحدة)، وفي إنهاء الحرب، وبعد وفاة آية الله الخميني، كان رفسنجاني مرةً أخرى هو الذي ضَمِنَ اختيار علي خامنئي مرشداً أعلى جديداً للبلاد.

وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت بعد ذلك مباشرةً، أصبح رفسنجاني رئيساً بالأغلبية، وفي الانتخابات التالية، ترشَّح وفاز من جديد، وظلَّ رئيساً لفترةٍ إجمالية بلغت 8 سنوات، كانت فترتا رئاسته في خِضم حقبة إعادة بناء البلاد، التي كانت قد خرجت لتوِّها حُطاماً من الحرب، وأبدى رفسنجاني أداء ناجحاً للغاية في ذلك المجال.

فترة رئاسة رفسنجاني:

كان أحد أوَّل الإجراءات التي اتَّخذها رفسنجاني بعد توليه الرئاسة هو إنهاء السياسات الاقتصادية اليسارية التقليدية التي كان معمولاً بها خلال سنوات الحرب، وبدء حركةٍ إنمائية سياسية واقعية مُوحِّدة تحت مُسمّى "حركة أصحاب العمل التكنوقراط".

وبحلول الفترة التي أصبح فيها رئيساً، كانت البلاد قد تحوَّلت إلى خرابٍ على خلفية حرب الأعوام الثمانية، وذلك بعد أن جعلت الحرب مصافي البترول، وآبار النفط، والأكثر أهميةً، سدود الطاقة الكهرومائية غير صالحةٍ للاستعمال، وتسبَّبت الحرب لإيران في دمارٍ اجتماعي، واقتصادي، وسياسي خطير. وكان لدى كل أسرةٍ تقريباً جندي قتيل أو جريح، وكان آلاف المواطنين لا يزالون أسرى لدى صدَّام حسين، بالإضافة إلى فداحة الأضرار المادية التي سبَّبتها الحرب، وفاقمت وفاة آية الله الخميني جو الكآبة الذي خيَّم على البلاد نتيجة كل تلك الأسباب، وأصبحت البلاد أكثر عُرضةً لمواجهة أزمةٍ سياسية واجتماعية.

نجح رفسنجاني، الذي تولَّى الرئاسة في ظل هذه الظروف، في إنقاذ البلاد من هذا الاكتئاب عن طريق التحالف والتنسيق بين قوى البلاد السياسية والاجتماعية النشطة، وبدأ عملية التنمية.

تحقَّق نجاح رفسنجاني، المدعوم من المرشد الأعلى خامنئي، من خلال الاعتماد على إداريي البلاد التكنوقراط النافذين، وتطوير علاقاتٍ جيدة مع الغرب برغم المعارضة التقليدية المتشدِّدة، المتشبِّثة بالتعاليم الدينية حول روح الجهاد، وحماية قيم الثورة، ورفض كل أنواع الحوار مع الغرب وأميركا، التي سموها "الشيطان الأكبر"؛ ولذا، نُحّي رفسنجاني تدريجياً بعيداً عن اليمين التقليدي، وتبنّى التكنوقراط في حكومة رفسنجاني نهج الخصخصة، واقتصاداً حراً، ونموذجاً للتدخُّل البسيط من جانب الدولة في إدارة شؤون الاقتصاد، وطوَّروا سياساتٍ في هذه الاتجاهات، وزادوا من وتيرة عمليات الخصخصة، وأصبح العديد ممن كانوا في هذه المجموعة أسماء معروفةً في السنوات التالية.

وقد باتت هذه المجموعة، التي سعت إلى أن تكون وفيةً للتعاليم الإسلامية، وأن تظهر حداثيةً في نفس الوقت، تُعرَف باسم "تيار اليمين الجديد"، في مقابل "اليمين التقليدي".

وقد استغلَّ تيار اليمين الجديد جميع المزايا التي توفِّرها السيطرة الحكومية لأقصى درجة، وطوَّر شبكات إنتاجٍ وتوزيع، وأصبح رائد إنشاء مراكز التسوق والمصانع الحديثة في البلاد.

وفي الوقت نفسه، تمكَّن في السياسة الخارجية من تطوير علاقاتٍ جيدة مع الغرب دون التوقُّف عن الدعم الذي قدَّمه لجماعات التمرُّد الإسلامية مثل حركة حماس وحزب الله، كان إنشاء "الجامعات الإسلامية الحرة"، وخلق فرص عملٍ جديدة بهدف الاعتماد على خرِّيجي هذه الجامعات في شبكات الإنتاج والتوزيع أحد ابتكارات تيار اليمين الجديد، وحسَّنت العلاقات الجيدة مع الغرب التجارة الداخلية والخارجية، في حين تزايدت وتيرة عمليات الخصخصة بعد تعويم سعر صرف العُملة.

ومع ذلك، في حين كانت هذه العملية تهدف في أحد جوانبها إلى إيجاد طبقة وسطى جديدة في المجتمع، على النقيض من ذلك، أدَّت إلى فجوةٍ في التباينات الاقتصادية بين الطبقات، ومن شأن هذه الاختلالات أن تمهِّد الطريق لظهور أحمدي نجاد، الذي سيتسبَّب بانتكاسةٍ لحياة رفسنجاني السياسية في السنوات التالية، ومن بين الأمور التي سيندم عليها رفسنجاني في هذه الحقبة هو فهمه وتطبيقه للخصخصة: ففي تلك الحقبة، لم تَجر الخصخصة الصحيحة حقاً؛ وبدلاً عن ذلك، أقامت المؤسسات الرسمية المختلفة شركاتٍ خاصة ضمنت لها أن تبقى متحكمةً في الاقتصاد، وعلى رأس هذه المؤسسات كان حرس الثورة الإسلامية. دعم رفسنجاني أنشطة الحرس، وقدَّم لهم فرصاً اقتصادية كبيرة، ومع ذلك، فشل في التأثير على الحرس، وترك هذا الميدان ليسيطر عليه المرشد الأعلى بصورةٍ كبيرة. في الحقيقة، تخلّى رفسنجاني عن العديد من الميادين الأخرى خارج الاقتصاد لمصلحة خامنئي، ومع مرور الوقت، أصبحت سلطة خامنئي على هذا النوع من المؤسسات أقوى تدريجياً، وبالتبعية تراجع شعوره بالحاجة إلى رفسنجاني، لدرجة أنَّه عندما تصادمت الشخصيتان في نهاية المطاف، كانت اليد العليا لخامنئي بوضوحٍ؛ لأنَّه كان في مركز السلطة آنذاك.

وبعد انتهاء رئاسته، استمر رفسنجاني في منصبه رئيساً لمجلس خبراء القيادة، ومجمع تشخيص مصلحة النظام (الذي يلعب دور متَّخِذ القرار النهائي في الخلافات التي تنشب بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور)، اللذين كان كلاهما من بين المؤسسات الأكثر أهميةً في النظام.

في ذلك الوقت، أصبح محمد خاتمي رئيساً، واستمر رفسنجاني في بسط نفوذه على السلطة التنفيذية بطرقٍ عديدة، وحدث الصدام الأول الكبير بين خامنئي ورفسنجاني، اللذين كانا اثنين من أكبر الأسماء في الثورة، في ساحة السلطة التنفيذية كذلك.

عندما ترشَّح رفسنجاني من جديد لمنصب الرئيس في انتخابات 2005، ظهر مرشَّحٌ غير معروف نسبياً، كانت السمة الرئيسية له هي إخلاصه لخامنئي، يُدعى أحمدي نجاد.

مَنَحَ انتخاب أحمدي نجاد لخامنئي الفرصة للسيطرة بشكلٍ كامل على السلطة التنفيذية، وعمَّق هذا الموقف الهُوّة بين الصديقين القديمين حتى وصل في نهاية المطاف إلى إعلان خامنئي علناً في خطابٍ له أنَّ أفكار أحمدي نجاد كانت أقرب إلى أفكاره من رفسنجاني، وحدثت المشكلة الكبيرة الثانية بين الثنائي خلال الاحتجاجات التي أعقبت فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ففي حين دعا رفسنجاني إلى هدوءٍ وطني، أصرَّ خامنئي على أنَّ قادة المعارضة يتعين إرغامهم على الخروج من الحياة السياسية.

حين بلغت المشكلات ذروتها بين الثنائي في 2005، كان رفسنجاني ذكياً بما فيه الكفاية ليدرك أنَّ أولئك القابعين في مناصب السلطة تغيَّروا لدرجة أنَّه كان من المستحيل أن يستعيد نفوذه مرةً أخرى على الإطلاق، لكن في الوقت نفسه، كان عنيداً ومصمِّماً بدرجةٍ كافيةٍ ألّا تجعله يستسلم، ولذلك، اختار وسائل وأدوات جديدة، كانت مهمته الأساسية هي ضمان احتفاظ النظام بتوازنه، وقد بدأ هذا التوازن يميل إلى كفّة المحافظين. فتوصَّل رفسنجاني إلى طريقٍ قد يمكِّنه من كلٍ من إعادة تأسيس توازنه المنشود، واستعادة نفوذه الذي كان يتمتَّع به في الماضي، وراح يقترب أكثر من المعسكر الإصلاحي.

كانت تلك الحركة ناجحةً بشكلٍ ما، فقد تمكَّن من تغيير صورته العامة، وأصبح الأمل الوحيد لأولئك الذين كانوا يكرهونه قبل سنواتٍ قليلة ماضية، وحينما رفض مجلس صيانة الدستور ترشُّحه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قام رفسنجاني بمناورةٍ حصيفة، فدعم روحاني، ولعب دوراً كبيراً في انتخابه، وبعد عامين، ترشَّح في انتخابات مجلس خبراء القيادة، ولم ينجح فقط بنسبة تصويتٍ عالية، بل وشرع كذلك في ملء المجلس في طهران بأنصاره.

بالطبع لم يكن لدى أنصاره وحدهم الأغلبية التي تجعله رئيساً للمجلس بعد، وقد كان يأمل في أن يكون قادراً على استغلال هذا النفوذ حينما يحين الوقت، لكن قبل أن يحين، تُوفي رفسنجاني.

الآن، ماذا سيحدث؟

أول الأشياء التي تتبادر إلى الذهن حين تموت شخصيةٌ بارزة مثل رفسنجاني هو أنَّه سيكون ثمة تبِعاتٍ مهمة. وهذا الأمر ينطبق بشكلٍ أكبر على بلدانٍ كإيران يكون الأفراد فيها على قدرٍ بالغ من الأهمية، ومع ذلك، يتعين علينا ألّا نبالغ في هذه المسألة، فبعض التعليقات تجعل الأمر يبدو كما لو أنَّ حلقة الوصل الوحيدة بين الإصلاحيين والمعتدلين الموجودين في دوائر السلطة فُقِدت، صحيحٌ أنَّ رفسنجاني لعب ذلك الدور، لكن ذلك لا يعني أنَّ حلقات وصلٍ أخرى لن تُبنى، ولا يجب نسيان أنَّ دوائر السلطة تلك نفسها، والنظام نفسه نظراً إلى تلك الأنماط من التواصلات باعتبارها مهمةً وضروريةً، وكانت مهمة مجمع تشخيص مصلحة النظام، الذي كان يرأسه رفسنجاني، هي الحفاظ على التوازن بصفته مؤسَّسةً رسمية، فمن الواضح أنَّ وجود شخصٍ مثل رفسنجاني قد أدَّى إلى كلٍ من الإبقاء على إمكانية وصول المعارضة إلى دوائر السلطة، وإبقاء تلك المعارضة داخل إطار النظام. وغياب قنوات تواصلٍ كتلك ربما يدفع المعارضة خارج النظام، لكن هذا هو آخر ما يرغب به النظام.

ثانياً، فكرة أنَّ رعاية رفسنجاني للإصلاحيين قد حَمَتهم من كل تهديدات دوائر السلطة هي نهجٌ مُبالِغٌ ينبع بصورةٍ أكبر من الحنين إلى النفوذ الذي كان رفسنجاني قادراً على بسطه في الماضي، حقيقةً، فَقَدَ رفسنجاني قدراً كبيراً من نفوذه في السنوات الأخيرة، وإذا كان قادراً على الحفاظ على نفوذه القديم، فما كان قائدي المعارضة مهدي كرّوبي، ومير حسين موسوي قيد الإقامة الجبرية: في الحقيقة، لم يكن رفسنجاني قادراً حتى على منع سَجْن أبنائه هو.

وبطبيعة الحال، لا أدَّعي، من خلال قولي ذلك، أنَّ موت رفسنجاني لن يغيِّر أي شيء، بل على العكس من ذلك، ربما يغيِّر الكثير من الأشياء، لكن علينا ألّا نُحكِّم عواطفنا عند الكتابة حول إمكانية التغيير، سأتناول قضية المناصب التي كان يشغلها عند موته، ومَن، وكيف يمكن أن تُشغَل من بعده؟ وكيف يمكن أن يؤثِّر ذلك على السياسة الإيرانية؟ وفي هذه الحالة، يجدر النظر إلى مناصب رفسنجاني، ومَن هم المرشَّحون المُحتملون الذين قد يشغلونها؟

مَن قد يخلُف رفسنجاني؟

من أجل الإجابة عن هذا السؤال، نحتاج إلى إلقاء نظرة على الألقاب التي كان رفسنجاني يحملها، هناك ثلاثة ألقاب رئيسية: عضويته في مجلس خبراء القيادة، ورئاسته لمجمع تشخيص مصلحة النظام، وأخيراً دوره كمُوجِّهٍ وكحلقة وصل بين المعتدلين والإصلاحيين، بما أنَّ أول هذه المناصب سيُشغَل من خلال الانتخاب طبقاً للدستور، فلا حاجة إذاً للخوض فيه، لكن الاحتمالات التي تتعلَّق بالمنصبين الآخرين تحتاج إلى أن تُحلَّل عن كثب؛ لأنَّ الشخص الذي سيصبح رئيساً لمجمع تشخيص مصلحة النظام سيمنحنا فكرةً عن المسار الذي سيُتَّبع داخل النظام في علاقته بالمعارضة، في حين أنَّ الشخص الجديد الذي سيصبح مُوجِّهاً للمعارضة سيمنحنا فكرةً عن خطط المعارضة فيما يتعلَّق بعلاقتها مع النظام.

المُرشَّحون المحتملون لرئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام:

دعونا في البداية نقول إنَّ رئيس هذا المجمع يُعيَّن من قِبَل المرشد الأعلى، وبالتالي، الشخص الذي سيُختار لقيادة تلك المؤسسة، التي تلعب دوراً موازناً داخل النظام، سيحمل مؤشِّراتٍ بالغة الأهمية حول الحقبة المقبلة. والمُرشَّحون الذين ورد ذكرهم هم كالتالي:

حسن روحاني: يُعَد الرئيس حسن روحاني أحد أوفر المُرشَّحين حظاً للتعيين في هذا المنصب من قِبَل المرشد الأعلى، وقد شغل رئيسان للجمهورية هذا المنصب بالفعل، أحدهما كان خامنئي، الذي اضطلع بمنصب الرئيس قبل تعيينه في منصب المرشد الأعلى، والآخر، والذي جاء بعده مباشرةً، كان رفسنجاني. وشغل كلاهما هذا المنصب في الوقت نفسه الذي شغلا فيه منصب الرئيس، رغم أنَّ رفسنجاني بقي في منصبه هذا بعد انتهاء رئاسته، وظلّ فيه حتى وفاته، ومن هذا المنطلق، تُعَد فكرة أنَّ رئيس الجمهورية ينبغي أن يرأس المجمع نوعاً من العُرف، وإضافةً إلى ذلك، سيعني تعيين روحاني في هذا المنصب أنَّ الدولة سعيدة بالإبقاء على هيمنة نظرتها الواقعية تجاه المجمع (من حيث تعيين المعارضين فيه وعدم إقصائهم)، وفي الوقت نفسه سيعني كذلك أنَّ التوازن في النظام سيُحَافظ عليه، وبذلك، سيبعث النظام برسالة مفادها أنَّه لا يرغب في أية توتُّرات.

محمد الهاشمي الشاهرودي: يُعَد الشاهرودي من بين أولئك الساسة الذين يمكن أن يصبحوا المرشد الأعلى في إيران بعد خامنئي، ولديه خبرةٌ في الاضطِّلاع بالعديد من المناصب البارزة، أهمها كوْنه رئيساً للسلطة القضائية، وهي إحدى السلطات الثلاث الرئيسية، إلى جانب السلطتين التشريعية، والتنفيذية، وبعد تولِّيه منصبه لعشر سنوات، عيَّنه خامنئي في كلٍ من مجلس صيانة الدستور، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والأمر الذي يُعزِّز من احتمالية اختيار الشاهرودي رئيساً للمجمع هو المجلس الذي يرأسه في الوقت الحاضر، وهذا المجلس الذي يرأسه حالياً، شأنه شأن مجمع تشخيص مصلحة النظام، هو مؤسَّسةٌ تهدف إلى حل الصراعات بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.

غلام علي حدَّاد عادل: عادل هو حالياً عضوٌ في مجمع تشخيص مصلحة النظام، وهو صِهر مُجتَبى نجل خامنئي، ويرأس عادل أكاديمية اللغة والأدب الفارسي، وهو أيضاً عضوٌ في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، ومجلس التعليم الإيراني.

علي أكبر ناطق نوري: كان نوري زميلاً لرفسنجاني على مدى فترةٍ طويلة، وكان المتحدِّث باسم البرلمان الإيراني الرابع والخامس، وهو حالياً عضوٌ في مجمع تشخيص مصلحة النظام، ونوري هو شخصيةٌ محافِظةٌ سابقة، دعمت روحاني، الإصلاحي، في الانتخابات الرئاسية، وسيعني انتخابه أنَّ نهج رفسنجاني سيجري الإبقاء عليه داخل المجمع.

وبالإضافة إلى ذلك، تم تداول أسماء أخرى مثل محسن رضائي، وعلي أكبر ولايتي، وعلي لاريجاني، وسيد جلالي، وإلى جانب ذلك، إذا ما عُيِّن رجل دينٍ متشدّدٍ من الذين ذُكِرت أسماؤهم، مثل صادق لاريجاني، ومحمد يزدي، وأحمد جنَّتي، سيعني ذلك، على الأرجح، أنَّ سياسة النظام الداخلية ستشهد توتُّراتٍ.

حول مَن سيلتف الإصلاحيون؟

بالرغم من أنه يمكن القول إنَّ القيود المفروضة على العديد من القادة الإصلاحيين المهمين تترك القليل من الخيارات التي يمكن للإصلاحيين والمعتدلين الالتفاف حولها، فهناك ثلاثة أسماء على وجه التحديد تبرز أمامنا هم: الرئيس السابق محمد خاتمي، وحفيد القائد المؤسِّس للثورة الخميني، حسن الخميني، والرئيس الحالي حسن روحاني.

ويبدو الأمر كما لو أنَّ روحاني يتصدَّر كلتا القائمتين كمرشِّحٍ مشترك، وإذا ما وقفت كلتا المجموعتين الأخريين، (مجموعة خاتمي ومجموعة حسن الخميني)، إلى جانب روحاني، فإنَّ فرصهما في أن يتوحَّدا معاً ستتزايد أيضاً. وأخيراً، يجب توضيح أنَّ روحاني إذا ما وجد نفسه في موقفٍ كهذا، فإنَّ ذلك سيجعل منه بصورةٍ مباشرة أحد أبرز اللاعبين في السياسة الإيرانية، وسيلقي الأمر بظلاله كذلك على الانتخابات الرئاسية المقبلة.

وعلى الرغم من أنَّ وفاة رفسنجاني ستَحرِم روحاني من داعمٍ قوي، فإنَّ الآثار العاطفية ستلعب لصالح روحاني في الانتخابات المقبلة.

الخلاصة:
غادرنا هاشمي رفسنجاني، أحد أهم الأسماء في السياسة الإيرانية، حاملاً معه كل أسراره، في عمر الـ 82. في الواقع، تركنا رفسنجاني مع مجموعةٍ من الذكريات المهمة، التي ستستمر في الانتشار، وتمتد حالياً لتملأ 14 مجلداً.

على الرغم من ذلك، الأمر المثير هو أنَّ الجميع يبدو مُعتقِداً بأنَّ رفسنجاني، على الرغم من نشر الكثير جداً من أفكاره، قد حمل معه الكثير من الأسرار الكبرى إلى القبر، ويُعَد هذا في حد ذاته مؤشِّراً على أهمية الرجل خلال حياته.

من المؤكَّد أنَّه ما مِن أحدٍ سيكون قادراً على ملء الفراغ الذي خلَّفه في السياسة الإيرانية، لكن من ناحية أخرى، يعني موته أيضاً أنَّه من بين كل اللاعبين المهمين من الرعيل الأول للثورة، لم يتبقَّ سوى خامنئي، وهذا يعني أنَّ عصر الأساطير في إيران في طور نهايته، وأنَّ البلاد تحتاج إلى الانتقال من الاعتماد على الأفراد إلى المؤسَّسات.

كان رفسنجاني رمزاً بارزاً عبر نهجه البراغماتي على مدار حياته السياسية الحافلة والطويلة؛ إذ لم يتردَّد عن تغيير خطّه السياسي إلى ذلك الذي يتطلَّبه الوضع. فحلَّ اليوم الذي نظر إليه فيه أعداء الأمس على أنَّه أملهم الوحيد، ومرةً أخرى، حلَّ اليوم الذي أصبح البعض يُعرِّفه فيه على أنَّه المنافس الأكبر لصديقه على مدار 60 سنة، خامنئي، وهكذا، يبدو أنَّ خامنئي تُرِك بلا منافس؛ ليصبح أقوى من أي وقتٍ مضى، لكن في الوقت نفسه، تُرِك وحيداً، كما لم يكن من قبل.

– هذا الموضوع مترجم عن منتدى الشرق؛ للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد