في ذكرى الثورة التونسية: سنصعد هذا الجبل

بعد ستّة أعوام من الثورة لعلّي أستطيع أن أقول إنّني الآن فقط أفهم لمَ قد حُزنا رتبة الأفضليّة بين الأمم بكوننا أمةً تحترف التغيير والأمل في قوله سبحانه وتعالى: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه}. لأجل كلّ هذا ولأجل ما لم يسمح المقامُ بذكره: للثورة بقية إن شاء الله.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/19 الساعة 02:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/19 الساعة 02:57 بتوقيت غرينتش

فتحت هذا المساء حسابي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، لأجد رسالة من إحدى الصديقات القديمات، رئيسة تحرير مجلّة ثقافيّة نسائيّة ناشئة، تطلب فيها منّي مشاركةً بمقال "عن الثورة وأيّامها"، وقد حاولت استجابةً للطلب، أن يكون المقال خفيفاً على القلب والذاكرة.. حاولت أن أستجمع الذكريات الجميلة وأن أكون أنيقة في طرح بعض الأفكار "المتّفق عليها".

ولكنّني الآن وبعد أكثر من ساعة ونصف من الوجوم أمام الصفحة البيضاء في الحاسوب، أعلن أنّني قد عجزت.

أبدأ، الآن، في تدوين اعترافٍ بأنّني قد هزمتُ ذكرى الأحداث والتفاصيل كلّها، ولكنني هُزِمتُ أمام بعضها التي لم تكن إلّا تفاصيل متعلّقة ببعض الصديقات والزملاء، شباب وشابات الثورة.

كنّا كثرة وقتها.. أذكر كلّ الوجوه التي أعرف أسماءها والتي لا أعرف، الوجوه التي رافقتُها في جمع التبرّعات من المارة والطلبة من أجل لافتات المظاهرات، والوجوه التي شارَكَت في تأطير النقاشات العامّة في مدرّجات المركّب الجامعي حول المجلس التأسيسي وحول الدستور والثورة والإسلام، وأيضاً وجوه مهندسات المستقبل -اللواتي أصبحن فيما بعدُ صديقات- هنّ يسترقن من ساعات الدراسة أيّاما، لإعداد وتأثيث دعمٍ لما عُرف بالانتفاضة الفلسطينية الثالثة(ماي الثورة) والجهدَ الذي بُذِل لإعداد وتوزيع وثائقي متعلّق بالتعريف بأهمّ المحطّات التي مرّت بها فلسطين قبل وبعد الاحتلال..
نعم.. على أيّامها، لم نكن نعرفُ تحديداً.. نحنُ، جيل الثورة، كيف تحوّلت فلسطين من أرض إسلاميّة حرّة إلى مستعمرة صهيونية.

وهذه الحقيقةُ لا ترتبط بمدى حبّنا أو اهتمامنا بفلسطين، بل لعلّنا أكثر الأجيال تعلّقاً بها وحبّا لها دون كيفٍ أو لماذا..
بل ترتبط بكوننا جيلَ بن عليّ ومن قبلِه بورقيبة -وإن كنّا أبناءً عاقيّن، إلّا أننا جيلهم ونتاجُ نظامهم -الجيل الذي تربّى على الفراغ الفكريّ والذي لم يجد غير مسلسلات الكرتون (ريمي وعهد الأصدقاء.. إلخ) يستقي منها مفاهيمه وثوابته، لا فقط لأنّ كلّ ما في ذلك النظام كان يدعو للتفسّخ والميوعة والتفاهة، ولكن أيضا لأنّه كان على درجة من الاستبداد والقمع تسمح بتكبيلِ كلّ من أراد إصلاحا أو تمرّدا ولو جزئيّا على الجهل والرداءة.

لم تكن عصا الجلّاد تفرّق بين الأستاذ الذي ينحرف عن الدرس المسطّر له وبين الإعلاميّ الذي يسمح لنفسه بالتحدّث عمّا "لا يعنيه" وبين الإنسان العاديّ الذي يفكّر في تأدية صلاة الصبح في المسجد أو الذي عُرف عنه الإطالة في الصلاة.

كنّا جيلاً ترعرع في بيئة لا يستطيع التكاثر فيها إلّا نخبةٌ من الانتهازيين وأصحاب المصالح والخونة والعملاء والتفّه والمرتزقة.

ورغم أنّ العشر سنوات الأخيرة في عمر النظام قد عرفت شيئاً من"الانفلات" الفكريّ ومن خروج الأمر عن السيطرة (ككلّ نهايات المستبدّين إذا ما اطمأنّوا) ورغم أنّ هذا الانفلات قد سمح لنا بسرقة بعض الوعي من صفحات الإنترنت (المسموح بها) ومن الفضائيّات وغيرها، إلّا أنّنا كنّا جيلاً على درجة من الجهل والقطع مع ماضيه وتاريخه رغم تعلّقه الفطريّ بالإسلام ورغم إحساسه المفرط بالظلم.. وهذا ما لا يمكننا نكرانه أو تجاهله، ولا يمكن لبقية شباب الأمة الإسلاميّة إسقاطه، في متابعتهم لتجربة الثورة في تونس

وإلّا كيف سيفهمون أنّنا قد رضينا بالعجوزِ المتورّط في شبهات تعذيبٍ أيامَ كان وزيرا للداخلية في نظام بورقيبة وفي شبهات فساد أخرى، ليكون رئيسا لأوّل حكومة انتقالية بعد الثورة وليكون مستأمنا على "أرشيف" الفساد في مرحلةٍ كان فيها حلمُ التغيير متاحا سياسيّا عظيما؟

جيلُ الثورة لم يكن يعرفُ بالفعل سيرته يومها، ولم يكن يعرفُ تاريخ الظالمين وأسماءهم (عدا البعض القليل جدّا من أبناء بعض السياسيّين والمدوّنين الذين لم يستطيعوا تقديم وعي شاسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي يجابه الماكينة الإعلامية الفاسدة)
بل لم يكن يفرّق بين الديمقراطيّة كنظام حكم وبين الانتخابات كوسيلة اختيار ولا بين ما يؤسّس له فكره الإسلاميّ وما يؤسّس له الفكر الإجراميّ ولم يكن يمتلك معرفة بما هو أكثر وضوحاً وبداهةً..

جيلُ الثورة لم يكن يملك الوعي الكافي لحماية ثورته..
وفي الوقت الذي انغمسنا فيه نرتوي من بحر الفكر وعلوم الحياة، كعطاشى يجوبون الشوارع ومحطّات الحافلات والقطارات ويتجاذبون أطراف الأفكار عند بائع الخضار ومع الأقارب وفي ساحات الجامعات وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، في ذلك الوقت الذي مثّل بداية ثورة فكريّة عظيمة والذي استطعنا خلاله اختصار سنواتٍ طويلة من التثقيف، كنّا قد خسرنا، فعلاً، المتاح السياسيّ العظيم (لأسباب سياسية لا أريد الخوض فيها هاهنا) وكان الفاسدون قد نظّموا صفوفهم فعلاً؛ ليبدأوا التغيير على حقيقته: ليس حلما جميلا مقدّما على طبق من ذهب، بل هدفا (موروثا) يحتاج بلوغه إلى عملية معقّدة وشائكة من السعي والمثابرة، وحيثُ إنّنا جيلُ "الفاست فود" (الوجبات السريعة)، فإنّه كان من الطبيعيّ أن نُبَرمَجَ ككلّ سكّان هذا العالم على الاستهلاك، وعلى التحمّس السريع، والضجر السريع واليأس السريع أيضاً.

لم يستطع الكثير الأغلب منّا مجابهة درجة احتدام الصراع الفكريّ التي كانت تكشِفُ في كلّ مرّة درجة أعلى من تعقيد عملية التغيير وصارت محاولات النقاش والبحث عن الحلول تتحوّل بيننا في النهاية إلى اتّهامات ونزاعات وخصومات، لأسباب خارجيّة وداخليّة، كان أهمّها حداثة عهدنا بالتغيير وحداثة عهدنا في طريق العمل الفعّال والإصلاح وكعصفور طال زمن احتجازه داخل الأقفاص، فنسي الطريق إلى السماء، كنّا نتخبّط ونقع ونصطدم ببعضنا أحيانا وبالحائط في أحيانٍ كثيرة، وحيث كانت كلّ المجالات الحيوية في النظام مفخّخة بالفاسدين وورثة 23 سنة من الظلم، فإنّ المطبّات التي اعترضت الشباب الحالم بالتغيير كانت كثيرة وعميقة في الإعلام والسياسة والتعليم والاقتصاد والثقافة وحيثما اتّجه.. الأمرُ الذي جعل أغلبنا يعتزل الساحات..
وبدأت وجوه عديدة تختفي وتعود بشكل أو بآخر "لقطيع المحايدين"..

بعد عامين من الثورة، اتّضح أنّ الثورة لا يمكن أن تكون إلّا قراراً.. لا نزعة غضبٍ وتنفيس.
وقد كان القرار يبدو أكثر صعوبةً بعد رصد ما حدث ويحدث في مصر وسوريا واليمن.. وبعد أن انكشف حجم الصراع الحقيقيّ وأطرافه هنا تماماً، كانت ذكرى الوجوه الكثيرة التي رافقتني أيّام الثورة تبعثُ على الوجع: حيث لم يبق منها إلّا الغياب.

ورغم أنّه لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن نصدّق بأنّنا في تونس قد ندمنا أو سنندم على ثورتنا، رغم الأموال التي صرفت لتأسيس هذه الفكرة في الداخل والخارج، فإنّ الفراغ والغياب لعددٍ لا بأس به من الثائرين على الساحة، كان يمثّل في ذاته أزمة، وكان من الموجع أن ترى شباب الثورة بمن فيهم الصديقات اللواتي راهنت على رفقتهنّ يهربون، يأسا، إلى الهجرة أو الالتهاء بالزواج والدراسة والانغماس في اليوميّ المستهلك، إمعانا في مقاطعة كلّ ما قد يذكّرهم بواجبهم نحو أمتهم، تاركين حفنة من الحالمين بالتغيير في مواجهة نظامٍ عالميّ يحوطنا جميعا كأخطبوط متعدّد الأذرع والأطراف.

أكتبُ هذه الكلمات الآن دونما شعورٍ عميقٍ بالوجع.. أراجعُ التاريخ، إنّه العام السادس بعد الثورة والرابع أو الثالث بعد اليأس.
ويحضرني بيتٌ للبرغوثي يخبرُ فيه
"الأمل ذروة اليأس..
فيا صاحبي توجع قليلاً..
توجع كثيراً..
فإن الأمل ذاته موجع حين لا يتبقى سواه
سنصعد هذا الجبل.."

بعد سنواتٍ من اليأس أو ربّما من النضج، لعلّ آخر الدروس التي ندين بها للثورة، أنْ اكتشفنا أنّ الفساد والظلم كيانٌ لا حدود له وسقوطٌ لا قاع له.. ككرة الثلج التي لا يتوقّف تعاظمها ما لم تصطدم بقوّة معارضة

إيماننا ومتابعة الواقع الذي يعلنُ بأنّ هذه الكرة ستلتهمنا جميعا ما لم نوقفها جعل أصدقاء كثيرين يعيدون الالتحاق بصفوف الحالمين، مقتنعين أنّه لا خيار لنا غير التغيير كي نبقى على قيد الحياة. ومقتنعين بأنّ الخسارة الكبرى ليست في العجز عن تحقيق مطلب بناءِ مستشفى أو مصنع (وسط بؤرةٍ من الجهل والفساد) بل في العجز الحقيقيّ عن بناء جيلٍ فاعلٍ من السياسيّين والمثقّفين والفقهاء والإعلاميّين والعلماء الحاملين لعقلية الثورة والقادرين على بناء دولةٍ قويّة عادلة..

بعد ستّة أعوام من الثورة، لعلّه قد اتّضح أنه لا خيارَ لنا غيرُ الأمل زادَ طريق.

أنهي هذا المقال معلنة عن السعادة العميقة التي تسكنني وأنا أراقب إحدى الصديقات القديمات التي قرّرت فتح مشروع اقتصاديّ يدرّس ويستثمر الطاقات الشبابيّة الناشئة للرفع من مستوى الخدمات المقدّمة في مجالٍ متقدّم رغماً عن فساد أصحاب رؤوس الأموال، والأُخريات اللواتي انخرطن في تطوير البحث العلميّ الموجّه وفي التوعية والتثقيف وغيره
وكثيراتٍ وكثيرين آخرين لا أعرفهم، ولكنّني أستطيع أن ألحظ حرارة تدفّقهم ونتائج محاولاتهم الناضجة والسائرة نحو النضج والتي قرّرت أخيرا أن تتكاثر وتتوحّد فلا تترك الساحة للظالمين وأتباعهم.

بعد ستّة أعوام من الثورة لعلّي أستطيع أن أقول إنّني الآن فقط أفهم لمَ قد حُزنا رتبة الأفضليّة بين الأمم بكوننا أمةً تحترف التغيير والأمل في قوله سبحانه وتعالى:
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه}
لأجل كلّ هذا ولأجل ما لم يسمح المقامُ بذكره: للثورة بقية إن شاء الله.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد