إنّ ظاهر الحال الآن بالعالم عموماً، والوطن العربي خصوصاً، يجعل منا شتاتاً لا ندري صوب ماذا ننظر ومَن نتابع ولمن ندعو وبماذا نفكر! وكذلك إن الظّاهر هو حقٌّ وواقع مثلما نراه وليس سراباً أو وهماً سنستيقظ منه غداً ونرى الربيع قد حل، ولكنّ الأمر غير الطبيعي أن يغادر المنطق عقولنا، وننسى الأصل، وأن نراهن على الفروع والجذعُ ما زال مقطوعاً، لا يا سادة فالمراد هو ذاك بعينه، أن نخسر الأصل دون انتباه، فاذا ضاع الفرع لن يكون الأمر جديراً بالاهتمام.
القصدُ وما أعنيه هو القضية الأولى وهي القدس، مركز وأصل كل قضية أخرى، فحلب هي قدس 1948 مكررة وكذلك باقي النزاعات في العراق واليمن ومصر وغيرها، إن الكيان الصهيوني أراد الاستحواذ على غايته فأطلق الرصاص من كل اتجاه؛ ليكون انتباه الصيادين (من إعلام وقادة وحلفاء وجيوش وكذلك نحن والأجيال القادمة) نحو آفاق واسعة من المشاكل تكفيهم لسنوات كفيلة أن تمنح الاحتلال فرصة التمكن من القدس، والسيطرة التامة عليها، سواءً كان مادياً كمسجد ومدينة، وكذلك غسلها من عقولنا كلياً لنؤمن بما هو غير منطقي ونردد ترنيمات المؤيدين لهذا الاستخراب.
والواقع مطروحٌ لنا جميعاً، كلّ زاوية تحاول لملمة مصابها، ويتزامن ذلك مع تزايد وتيرة الاقتحامات في الأقصى الشريف، وتجبر الطغاة فيه بكل السبل، بدءاً من التخطيط الزماني، مروراً بزيادة أوقات زيارات المستوطنين في القدس وأوقات صلاتهم في المسجد، وهي ترفيه ونزهة إن صحّ التعبير وليست صلاة!! وانتهاءً بهدم البيوت وزيادة أعداد الأسرى والشهداء، وكل ذلك يرافقه تغييب إعلامي واضح وملحوظ، سواء كان محلياً وعربياً ودولياً، إلا مَن رحم! ولندخل بعالم الأرقام المؤسفة أكثر، فقد تزامن مع أحداث حلب الأخيرة وصول عدد المقتحمين إلى 1200 يهودي بيوم واحد، وشهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان زاخراً بالأعياد اليهودية، التي امتدت حوالي 16 يوماً متتالية من الاقتحامات المستمرة ويرافقها منع المسلمين من الصلاة والدخول للمسجد، وعلى مدار ثلاثة أيام أواسط سبتمبر/أيلول لعام 2015 بالتزامن مع عيد رأس السنة العبرية كان الاعتداء على المصلين وأبنية المسجد التاريخية بشكل غير مسبوق، والأمثلة يومية لا عدّ ولا حصر لها، ولا تدرج إلا بصفحات ومواقع مقدسية فقط.
إن القارئ سيقول للوهلة الأولى إن ما يحصل لحلب ليس كاميرا خفية، وإن حرب اليمن جعلتها خاوية على عروشها حقاً وليس كذباً، فلِمَ ينظر أهل حلب واليمن إلى القدس وهم في غمرة أوجاعهم؟! الأمر بسيط سيدي، فلو كانت حروبنا ومعاركنا ضد الباطل وليس ضد شخص بعينه سنعرف الإجابة، وسنعلم أن من لا يقبل الباطل أياً كان سيرفض الظلم ضده وضد أي إنسان آخر، فما بالك بأخيك المسلم العربي! وما بالك بأصل كل هذا الدمار وهذا الوجع! وما بالك إن كانت قضية التاريخ -من الإسراء والمعراج إلى الفتوحات ثم صلاح الدين وما تلاهُ حتى عام 48 وما بعدها- هي مرادي من هذا!
علينا أن نعي أن هذه القضية هي نقطة حاسمة ومفصلية في كل عصر، وكانت محطة نزالات كثيرة ومحاولات جمّة لانتزاعها من أيدي المسلمين، فلمَ تضيع هباءً أمامنا مع كل هذا الخذلان والتقاعس عن أداء واجبنا ومسؤوليتنا تجاهها؟! إن ضياعها هو ضياعُ العروبة حقيقة لا مجازاً؛ لأن تخلفنا عنها هو تنازل عن مبدأ وفكرة وعقيدة قدّست هذا المكان وباركته وجعلتهُ قبلتنا الأولى، وانتهاك قدسيّته وحرمته أمام ناظرنا مع كل هذا التغافل هو إعلان صريح على بيع القضية والعروبة في القدس خاصة، وبلاد الشام التي تضيع منّا شيئاً فشيئاً عامة.
المشكلة الغريبة والمؤسفة في آن، أنّ من يغرد على قاعدة "اللهمّ نفسي" ليس القابعين تحت الدمار والرصاص، ولا المنقذين للضحايا من تحت الركام ولا أطفال اليُتم والمآسي ولا الثكالى اللاتي يبكين رجال الحي جميعاً؛ بل من يجلس خلف الشاشة بجانب المدفأة مع كوب نسكافيه ساخن وصحن مكسرات من النوع الفاخر، يحقّ لك أن تصمتَ طويلاً قبل أن تسمح لنفسك بهذا الرأي، فطابور المتحدثين كثر، والحاملون للهمّ فعلاً القابضون على كفِّ الرجولة ما زلنا قيدَ انتظارهم!
ومثال آخر حصل مؤخراً موجعٌ بكل معنى الكلمة، الكرك وما أدراك ما الكرك! قبل فترة استشهد على بوابة الأقصى سعيد العمرو من الكرك، وأنا واثقة أن صبر أهله وعزاءهم الأول والوحيد أنه مات شهيداً على بوابة الأقصى، والآن وقد عاث المفسدون في الكرك خراباً منذ أيام فهذا لم يكن سبباً؛ ليقول المقدسيون وأهل فلسطين عموماً كفانا ما يجري لنا! إنما رأينا منهم ما يسر الخاطر من تضامن واضح، وكذا نحن من ثمانية وستين عاماً يجب ألَّا ننسى، وألَّا تلهينا مصاعب الدنيا ولا ثورات الحق، ولا ضجيج السلاح، ولا الخوف من عقاب الظالم، ولا جلد السجان عن ذكر الحق دوماً، وعن الدفاع عن المظلوم أينما حل، لنا بالماضي عِبَر وبالآتي قضية مستمرة، لا ننسى ولا نجهل قصصها ونحاول جاهدين أن تبقى هي الأساس بكل هذا الفناء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.