تأثُّر تاركوفسكي الواضح بالأدب جعل أفلامه تتخطى المفهوم السينمائي العتاد

التأمل الذي منحته إياه الكتب والفنون الأدبية والمسرحية جعله يدقق النظر في أهدافه الخاصة، ويدرس العوامل التي تميز السينما عن الفنون الأخرى، ويبحث في إمكانياتها الفريدة والفذة، ويكتشف إلى أي مدى يمكن مقارنة تجربته مع تجارب وإنجازات الآخرين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/17 الساعة 03:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/17 الساعة 03:35 بتوقيت غرينتش

أحب الكتابة عن السينما التي تطرب حواسي جميعاً في معزوفة فنية راقية الصنع.
كنت أستمع بالأمس لسيمفونية من تأليف الروسي تشايكوفسكي، وتملكتني الرغبة في الحديث عن القديس أندريه تاركوفسكي، كون الاثنين فنانين عظماء من روسيا، هذا الرجل الذي أعتبره ليس مجرد مخرج؛ بل فيلسوف من الطراز الرفيع للدرجة التي جعلته يواجه الكثير من المتاعب مع الاتحاد السوفييتي ومع المنتجين، هذا الرجل لم يكن يصنع أفلاماً عادية، كما يصف صناعته عن الأفلام فهو يقول "لكي أقوم بصناعة فيلم عليَّ أن أتخذ قراراً مصيرياً، لا يمكنني أبداً أن أضع خطاً فاصلاً بيني وبين أفلامي، أنا أفلامي"، هذا ببساطة يوضح لنا أن تلك التساؤلات الوجودية المعروضة ليست مجرد شيء عابر في خيال القديس لكنها تشكل جزءاً وجدانياً وذاتياً فيه.

لقد أحب القديس الكاتب الكبير ديستوفسكي ولطالما أراد أن يصنع فيلماً عن ذاتية ديستوفسكي وليس فيلماً من إحدى رواياته، فالرجل لم يرَ أي جدوى من تحويل روايات ديستوفسكي إلى الشاشة، وبالرغم من ذلك استعان به في معادلاته الفيلمية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو في المشهد الذي أحبه كثيراً من لوحته الخالدة Stalker؛ حيث يستلقي المرشد على المياه، وبجانبه ذلك الكلب الذي يظهر كثيراً في الفيلم، لقد اعتاد ديستوفسكي على تشبيه العدمية بالكلاب في وصفاته الأدبية وسطوره البلاغية، ولقد كان يرمز "المرشد" في الفيلم إلى الثوابت والعقائد، بينما كان "الكاتب" إسقاطاً من القديس على الفنون جميعاً، و"الأستاذ" كان يجسد العلم، مكونات هذا الكادر العظيم ترمز للعدمية ببراعة، وكان هذا إسقاطاً للخلل الذي أحدثه العلم والفن في الأديان المنظمة عبر العصور السابقة وسقوط الإيمان وثبات العلم التجريبي بقوة، على تلك البركة كان يوحنا المعمدان يقود الناس للإيمان، وفوق تلك البركة سقط الدين، الكلب هو رمز لانهيار سلطة الدين وخواء محتواها وحجتها، الكلب هو أن اللاشيء قد ربح، خاصة أنه كما ذكرت سابقاً كانت الكلاب تستخدم كرمز عن العدمية في كتابات ديستوفسكي، حتى إن الكلب رافق هذا الرجل إلى منزله بعد انتهاء الرحلة، تاركوفسكي لا يحشو أفلامه بمشاهد عشوائية بل لكل مشهد دلالة وإسقاط يقرع كجرس كاتدرائية القديس باسيل، وهناك الكثير جداً من المشاهد بالطبع على مدار أفلامه السبعة تبرز فتنته بالأدب.

لقد تأثر القديس بديستوفسكي للدرجة التي جعلته كتب في يومياته: "مرة أخرى تحدثنا عن دوستويفيسكي، أنا وساشا ميشورين (كاتب مسرحي وسينمائي، شارك في كتابة فيلم "المرآة")، من المبكر أن نفكر في كيفية إخراج فيلم عنه، علينا أولاً أن نكتب المشروع، لا نرى أي جدوى من تحويل رواياته إلى الشاشة، يجب أن نحقق فيلماً عن الرجل نفسه، عن أعماله، في هذه المرحلة، عليَّ أن أقرأ كل مما كتبه دوستويفسكي وكل ما كتب عنه.. 30 أبريل/نيسان 1970.
بإمكان دوستويفسكي أن يصبح غاية ما أريد أن أفعل في السينما".

هذا بالطبع يقودنا إلى أن تاركوفسكي كان شديد التأثر بالأدب، ولقد ظهر هذا واضحاً في أفلامه، لم يكن ما يمارسه تاركوفسكي في أفلامه استعلاءً بقدر ما كان فناً حقيقياً، لقد تخطى تاركوفسكي مرحلة "الفيلم السينمائي"، لقد جمع كل الفنون في كل فيلم كان يصنعه، ناهيك عن أن والده كان شاعراً قوي البلاغة وفيلسوفاً في الصيغة البنائية، ولكن تاركوفسكي أيضاً كان يمزج تلك القصائد في أفلامه، بصوت سيمفوني كانت تُقرأ تلك القصائد في أفلامه، فيبدو كل فيلم كلوحة فنية بدلاً من كونه مجرد فيلم، أي أنه كان يقوم بتكوين معادلة تجمع بين بلاغة الصورة وقوة المضمون ومتعة التذوق ورُقي الأسلوب.

ربما سردت في السطور السابقة تأثّر تاركوفسكي الشديد بالأشكال الأدبية على رأسها قصائد والده وكتابات أبرز الروائيين الروس فيدور ديستوفسكي، ولكن حان الوقت الآن لنقول إن تاركوفسكي قد تعلم التأمل، فالفترات التي كانت تفصل بين أفلامه كانت طويلة وموجعة، جعلته يستقي الكثير من المسرح ومن القراءة الأدبية، لقد كان معجباً بتوماس مان؛ حيث يقول: "أعدت قراءة توماس مان مؤخراً، إنه عبقري، روايته (الموت في فينيسيا) مذهلة، على الرغم من الحبكة العادية جداً، لكن الفترة التي أجلس فيها بعيداً عن السينما تمنحني الوقت للتأمل في فنون كتلك".

التأمل الذي منحته إياه الكتب والفنون الأدبية والمسرحية جعله يدقق النظر في أهدافه الخاصة، ويدرس العوامل التي تميز السينما عن الفنون الأخرى، ويبحث في إمكانياتها الفريدة والفذة، ويكتشف إلى أي مدى يمكن مقارنة تجربته مع تجارب وإنجازات الآخرين.

يبدو واضحاً من نتاجه الفني السينمائي أنه كان شديد التأثر بالأدب، يحب ديستوفسكي وتوماس مان وقصائد والده، بل وفنوناً مختلفة كالموسيقى والأوبرا كالتي كان يديرها، وعشقه الدائم للوحات، هذا الرجل كان رفيع الذوق ومثقفاً، وبالرغم من علمه الكامل بالبنية الترابطية التي تستدعي انتباه وتركيز المشاهد للفيلم أو للعمل الأدبي، فإنه بالرغم من معرفته التامة لتلك الأمور باعتباره عاشقاً للأدب، لكنه كان أحياناً يتخلى عنها، مثل فيلمه the mirror، هذا الفيلم حرّك مشاعري؛ لأنه أعادني إلى طفولتي، إلى المشاعر المماثلة التي اختبرتها؛ لهذا يمكننا النظر إليه كعمل يتخطى مرحلة "الفيلم السينمائي" ببنيته الدرامية المعروفة أو تركيبه السينمائي، مع ذلك هو يتضمن وسائل سينمائية محضة، والتي هي بارعة وفعّالة على نحو استثنائي، ليس غرض تاركوفسكي أن يروي قصة، ولا أن ينقل رسالة على نحو عقلاني؛ بل أن يحفر في ماضيه، في ذكريات طفولته، تأثره الشديد بالأدب وتأمله المستمر جعلاه يتخلى في فيلم كهذا عن مفهوم "الحدوتة" التي يمكن روايتها بشكل مباشر في خط درامي وزمني متسلسل.

تاركوفسكي شعر بالإغراء من الكتب للدرجة التي جعلته يكتب كتاباً، ليس فقط مجرد كتابة السيناريوهات أو اليوميات بل كتاباً كاملاً يدعى "النحت في الزمن"؛ حيث يقول في مقدمة الكتاب "بقراءة، وإعادة قراءة، العديد من المؤلفات حول نظرية السينما، توصلت إلى نتيجة مؤسفة وهي أن هذه الكتب لم تقنعني ولم تشبع حاجتي، بل جعلتني أرغب في تقديم ومناقشة رؤيتي الخاصة لمعضلات صنع الفيلم وأهدافه".

وربما الحديث عن تأثره ودرايته بكل فن على حدة قد تستهلك مقالات ومقالات؛ لذلك من الجيد أن نملك فكرة قوية عن تأثره بالأدب في الوقت الحالي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد