حينما تكون الدولة ضعيفة وغير متماسكة، وينتشر فيها حالة التربص بين النظام وبين النخب التي تسعى لإعادة الحياة لطبيعتها، بعد أن انقلب عليها المنقلب، وخصوصاً إذا كان هذا النظام استولى على الحكم بوسائل غير ديمقراطية، وأذاق الشعب ويلات الحرمان والتخلف والتدهور في جميع المجالات، تظهر فكرة التسريبات، التي تستخدمها الدولة البوليسية مع معارضيها.
وإذا رجعنا إلى ما بعد 23 يوليو/تموز 1952 نجد أن مصر كانت على موعد مع وقائع تاريخية مهمة في مسار علاقة السُلطة بالشعب، وكان من بين تلك الوقائع ما يُعرف بالتسريبات، التي ظهرت في بداية ستينيات القرن الماضى أيام عبد الناصر وحتى الآن.
وقصة التسريبات الأولى في مصر لم تكن تتعلق بمكالمات تُعرض على شاشات التليفزيون، ويُروّج لها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كما يحدث في الوقت الراهن، بل ارتبط الأمر في بداية الستينيات بطلاب الثانوية العامة؛ حيث تمكّن بعض الموظفين من تسريب الامتحانات، ووصلت إلى إذاعة إسرائيل، التي أعلنت أنها ستنشر أول مادة، الأمر الذي دفع جمال عبد الناصر إلى التدخل، وتوصلت الجهات الأمنية، حينئذ، إلى أن الجناة هم بعض من الموظفين المصريين، الذين اعترفوا أنهم سرّبوا الامتحان بغرض إعطائه لأولادهم وأقاربهم وليس بهدف الجاسوسية، إلا أنه انتشر دون علمهم ووصل إلى الإذاعة الإسرائيلية، وتمت محاكمتهم بالسجن 10 سنوات بالأشغال الشاقة.
وتكرر السيناريو، عام 1967، من قبل موظفين مصريين بالمطابع؛ لتعلن إذاعة إسرائيل للمرة الثانية أنها تمتلك امتحانات الثانوية العامة، وبدأت نشر مقتطفات منها، ومعاقبة الجناة.
وبرحيل عبد الناصر، واستلام أنور السادات لمقاليد الحكم وسط طوفان شعبي يردد هتاف: "هنحارب"، ويدعو للسير على درب الرئيس الراحل تحت شعار: "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". في تلك الأيام أحضر أحد الضباط شريطاً إلى بيت السادات، وفقاً لرواية قرينته السيدة جيهان، التي تسلمت من سكرتير الرئيس وقتها الشريط، واستمعت معه إلى ما ورد فيه، وقالت جيهان في حوار تليفزيوني: إن الشريط كان عبارة عن حوار بين الناصري فريد عبد الكريم، والكاتب الساخر محمود السعدني، وفي مايو/أيار 1971، وجد السادات في الشريط ما رأى أنه دليل أساس في تحركه ضد ما عُرف بمراكز القوى؛ لتتوالى الأحداث بداية من إقالة شعراوي جمعة، وزير الداخلية، آنذاك؛ ليرد الخارجون من عباءة عبد الناصر بتقديم استقالات جماعية من مناصبهم الوزارية، وضحك السادات على الاستقالات الجماعية، وقال: "والله سهلوها عليّ، كتر خيرهم"، وخرج إلى الشعب قائلاً: "سأفرم أي قوة ستعمل ضد بلدي"، وقرر حرق شرائط التجسس على مكالمات المواطنين بهدف "بناء مجتمع الحب".
ولكن في الوقت الحاضر نجد أن التسريبات، إما أن تأخذ شكل الصراع بين أجهزة الدولة، كما حدث في مكتب السيسي حينما كان وزيراً للدفاع، أو للمكايدة السياسية وتشويه صورة المعارضة المصرية، كما فعلت بعض الجهات الأمنية بتسريب بعض المكالمات لقيادات من الإخوان، أو المعارضة، وشباب ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وإعطائها لبعض الصحفيين والإعلاميين المحسوبين على تلك الأجهزة المشبوهة، وحدث ذلك في برنامج "الصندوق الأسود"، الذي قدمه عبد الرحيم علي، الذي يتمتع بعضوية مجلس النواب حالياً.
ومع أن الدستور المصري ينص في بعض مواده على أن "للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تُمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حُرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال، التي يبينها القانون، ومع ذلك وجدنا هذا الصحفي، بإيعاز من الأجهزة الأمنية، يقوم بتسريب بعض المكالمات الخاصة بالنشطاء لتشويه صورتهم، وإيهام الرأي العام بأن هؤلاء عملاء لجهات خارجية!
وبعد أن قرر الدكتور محمد البرادعي الظهور مرة أخرى على إحدى القنوات الفضائية (التليفزيون العربي)؛ لكي يدلي بشهادته على الفترة التي قضاها نائباً لشؤون العلاقات الخارجية لعدلي منصور، الذي وضعه السيسي في رئاسة الدولة، نجد أن المشهد يتكرر، وتحدث حالة من السُّعار في وسائل الإعلام المحسوبة على نظام السيسي، وقبل أن تذاع الحلقة الأولى، يشنون حملة مشبوهة ضد البرادعي، ويستخدمون الأسلوب نفسه، بتسريبات له مع سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري السابق، وشخصيات سياسية أخرى، لتشويه صورته أمام الرأي العام، بل وصل الأمر إلى المطالبة بسحب الجنسية المصرية منه وقلادة النيل!
أقول: بداية إن هذا الأسلوب القذر تتّبعه الأنظمة المستبدة مع المعارضين لها أياً كانت انتماءاتهم، طالما أنهم يخرجون عن المرسوم لهم، ويخالفون السياسات الفاشلة التي تتبعها تلك الأنظمة، ثانياً: نتفق أو نختلف مع البرادعي في أدائه، وإقراره ووقوفه مع الانقلاب في الفترة الأولى، إلا أنه يجب أن نساعد كل من يريد أن يعترف بخطئه الذي ارتكبه في حق الشعب المصري، ونترك أمره لله، فالأصل في المسألة أن كل من يخالف نظام السيسي الذي أتى على الأخضر واليابس، يجب دعمه والوقوف معه، وخصوصاً أن بعضاً ممن دعم الانقلاب تراجع مرة أخرى، مع الفشل الذريع الذي نراه في ممارسات السيسي ومن معه.
إننا أمام حالة لنظام فاشل مستبد، أتى على كل مقدرات الدولة المصرية في كل الميادين، ومن ثمَّ يجب على المعارضة في الداخل والخارج أن تلم شعثها، وتتوافق فيما بينها، للخروج برؤية مستقبلية لإنقاذ مصر من أيدي العسكر، وممارساتهم التي أضاعت حقوق العباد والبلاد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.