مر على العالم العربي والإسلامي، خلال مئات السنين، عدد كبير غير محدود من الشخصيات المهمة، الاستثنائية في ميدانها، حكّامٌ وزعماء وسياسيون، رجال فكر وعلم، رموزٌ دينية وإنسانية، رجال ونساء، وقد وصل عددهم إلى رقم غير مسبوق وغير ملحوق. لقد قصّرت المصادر التاريخية في حصر عددهم وإحصائهم، ولكنهم -بلا ريب- وصلوا لعشراتٍ من الآلاف، وجميعهم تركوا في عصورهم أثراً كبيراً عظيماً.
ولكنَّ أغلبهم مرّ على القداسة مرور الكرام، لم يُخلِّد أي منهم نفسه ولم يترك لمن بعده ثغراتٍ لينفذ منها من ينزع إلى التقديس والتمجيد. ولم يضع هؤلاء العظماء الألوف لأنفسهم هالاتٍ ربانية من نور أو قدسيات كهنوتية خاصة، إنما كانوا دائماً يشيرون إلى الله إن وُفِّقوا في أمرٍ؛ فهم عبيده الذين استمدوا من هدايته وبديع صنعه، ويشيرون إلى أنفسهم بتقصير أو قصور إن أخطأوا، ولم يؤسسوا أبداً للعصمة والتقديس والكهنوت، وكانوا، كغيرهم، عرضة للانتقاد والتقويم وقت الاعوجاج. لقد أسسوا لنهج "إن وُفِّقت وأفلحت فمن ربي، وإن قصّرت فمن نفسي وقصورها"، ولكن…
لكن المتأخرين المتحكمين -وأعني بهم الذين احتلوا كراسي العلماء الشاغرة وعاشوا في المئات الأخيرة من السنين- هم الذين صنعوا القداسة والكهنوت وعصمة من لا عصمة له، وبطريقة انتقائية محزّبة ووفق ما تيسر ووصل من كتب ومراجع. وما وصل عن القدماء أصلاً قليل شحيح إذا أخذنا بالاعتبار ما أُتلف وحُرق عن عمد وما اندثر بفعل الزمن والسنين والنسيان.
وما أُتلف في نهر دجلة وحده غيّر لونه وكوّن جسوراً بين الضفتين وقطع جسوراً بين حقبتين: حقبة الارتقاء والثراء المعرفي والبحثي المكتوب، وحقبة الانحدار والفقر المعرفي المكتوب والمنقول.
الذين تحكموا من المتأخرين هم الذين قسّموا الفقه والفقهاء وجعلوا الدين مذاهب حسب ما اعتمدوه وارتأوه هم أنفسهم، بعد أن توقفوا أصلاً عن الاجتهاد وتجديد الفقه… واتخذ هؤلاء لأنفسهم لقب "الشيوخ".
وهؤلاء المتأخرون، ومن ضمن اعتماداتهم الضيقة للمذاهب والأشخاص، أدخلوا التقديس والتنزيه بعبارات غير مباشرة ومن خلال التطبيقات الحصرية لمدرسة فكرية أو فقهية محددة ونسّبوا الناس إلى علماء رموز، علماء لم يعلموا وهم على قيد الحياة أن قسماً من الناس سيُلحقون بهم وسيُكنّوْن بأسمائهم منسوبين إليهم. وتبلورت عند الذين اتّبَعوا فرق ومذاهب ومضى كلّ وراء فرقة أو مدرسة أو مذهب أو رمز.
ومضى الناس وراء المتأخرين الذين تحولوا في أحسن الأحوال إلى حَفَظة كتب، وكان لكل فريق حفظته ورؤساؤه بأسماء علماء وورثة. وامتثل الناس لأوامرهم وإرشاداتهم مضطرين، ثم تطرفوا في رفض كل مذهب غير مذهبهم أو مدرسة غير مدرستهم.
وأغرب شيء وصل المتحكمون المتأخرون المعاصرون إليه، أنهم راحوا يعيدون اليوم تعريف الإسلام الصحيح على ما تبلور في العهود القديمة من مسميات وأحزاب؛ فعند جمع منهم "الإسلام" هو ما كان عند الأشاعرة والماتريدية، وعند غيرهم ما كان عليه أتباع ابن تيمية بالعموم، وعند البعض ما كان عند المعتزلة أو غيرهم، ولم يعلموا أن الناس بأكثريتهم الساحقة لا يعلمون شيئاً عن هذه التصنيفات والتبعيات والمسميات… إلى درجةٍ ظنّ بعض الناس أن "الماتريدية" هي أن تفعل ما تريد، وظنّ بعض الجلّادين المجرمين في سوريا أن ابن تيمية هو الزعيم المتخفي للثوار وراحوا يعذبون الناس ليل نهار في الأَقْبية ليدلّوا على مكان اختباء ابن تيمية.
ولم يقتصر نهج الكهنوت وتقديس البشر على المشايخ وأتباعهم؛ بل استخدمه المستبدون باحتراف أكبر وباتجاه أخطر، وكان لهم ذو فائدة عظيمة. استخدم المستبدون الطريقة وانتزعوا من أغلبية المشايخ، بالترغيب والترهيب والتزييف، أنهم "ولاة الأمر".
ولم يقف المستبدون عند حد أبداً، فقدسوا أنفسهم بطريقة وقحة بعيدة عن المنطق والاحترام. وفي سوريا، بلغ الأمر في آخر 50 سنة أقصى مداه، ويبدو أن الأمور في سوريا دائماً تبلغ أقصى مداها!
فنُشرت الرسالة "الخالدة" لحزب البعث، وبدأ النظام السوري يُرغم الناس على تخليد الأسد الأب وتقديسه، فنُصبت له التماثيل بالساحات، وطُبعت صوره في كل مكان، وزُرعت الهيبة والقدسية بالرعب والرهبة ليُرغَم الناس على تبجيل "المقام الرئاسي" الذي استمر عشرات السنين حتى أُعطي صفة "الخلود"، وأُجبر الناس على تقديس الأسرة الحاكمة حين أُجبروا برعاية المؤسسة المشيخية على القبول الفوري بوراثة الابن ومِن بعده السلالة إلى الأبد…
وأُجبروا بالعصا على تقديس رجل الأمن على تخلّفه، حيث وجد الطريق سالكاً فارغاً فأجبرهم بدوره على تقديس "بوطه" العسكري. وطال التقديس معظم اللادينيين؛ فعند الشيوعيين المتطرفين كانت شدة التقديس عجيبة لماركس وإنجلز ولينين وماو وغيرهم، وكان يكفي أن تذكر أحد هذه الأسماء بسوء أمامهم "لينطّوا وما يحطّوا".
وهناك القوميون العلمانيون الذين قدسوا آباءهم المؤسسين مع "شوفينية" مفرطة، فشمل التقديس عبد الناصر وميشيل عفلق وغيرهم في جانب العرب، وكان أوجلان الأب المؤسس "المقدس" في جانب الكرد.
وانفرد الشيعة الصفويون بتقديس كهنوتي، مميز ومعاصر، لنظرية "الولي الفقيه" التي أعطت لشخص "إيراني" معاصر واحدٍ العصمة والتبعية والقدسية والكهنوت دفعة واحدة.
وبوتين رتّب لنفسه قدسية روسية من نوع خاص، مزجها وباركها عن طريق الكنيسة الأرثوذكسية وجعل صوره في كل مكان وعلى كل شيء، وأقنع الروس بأن لا بد لهم من فارس روسي قيصري بطل يعيد لهم أمجاداً معنوية دعائية ولو كانت فوق أنقاض الاقتصاد الروسي المتدهور المسارع نحو الانهيار. ويمارس بوتين دعايته البطولية في سوريا بأقصى ما يمكن أن تفعله آلته الحربية التدميرية وستأبى بطولته الاستعراضية -بلا شك- أن يتوقف قبل أن ينهي ما ظنه في البداية أمراً عسكرياً لا يحتاج أكثر من 3 أشهر.
ويصعد ترامب إلى الحكم حاملاً نفس الإرادة والوجهة، وسيصعب على الملمِّعين في أركان حكمه أن يجعلوا له قدسية بعيداً عن التهكم والدهشة، ولكن الأمر لن يكون مفاجئاً بعد المفاجأة الأكبر التي كانت أصلاً في نجاحه بالوصول إلى الرئاسة، وقد يحتاج ترامب ليفرض هيبته وقدسيته أن يضرب بضع قنابل نووية تكتيكية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.