بعد كل ما مرَّ وما زال يمر ويفتك ببلادنا العربية من كوارث، ما زلنا نتساءل: ماذا ننتظر أن يحدث أكثر من ذلك حتى نتعلم من دروسنا وماضينا كدول عربية؟
هذا هو الفارق الوحيد بين عالمنا وعالمهم: التعلم من تجاربهم الماضية، فهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من حضارة إلا بعد أن تعلموا من دروس قاسية على مدى قرون مضت وما زالوا.
وأبرز تلك الدروس كانت سيطرة الكنيسة في القرون الوسطى على حياة الشعوب في كل نواحي الحياة، حتى إن الكنيسة حرّمت العلم وقامت بإعدام العلماء وتعذيبهم واتهامهم بالكفر من أمثال العالم الفلكي جاليليو وبطليموس؛ حيث بقيت كتبهم ضمن قائمة الكتب المحظورة لأكثر من مائتي عام، ما دفع الشعوب إلى الثورة ضد الكنيسة التي فرضت عليهم الاختيار إما الدين وإما العلم، مرَّت البلاد بعهد إصلاح الكنيسة (ما يسمى الرينايسانس) حتى بدأت العلمانية بالظهور في القرن السادس عشر من منبعها فرنسا، كحلّ لخلاص الناس من تسلّط الكنيسة وتضييق آفاق الحياة وربطها بالدين.
إذاً العلمانية كانت حلاً منطقياً بعد الظلم الذي عانته أوروبا من جور الكنيسة حتى خروج القارة من الظلمات إلى نور العلم، ولو أنهم عرفوا الإسلام وقتئذِ لاختصروا كل هذه المعاناة ولوجدوا في الإسلام السمح ما يجمع بين الدين والعلم، حتى إنه صنف العلماء من ورثة الأنبياء وأعطاهم مكانة خاصة من الرفعة.
تعلمت أوروبا أيضاً من دروس أخرى منها التغلب على الإقطاعية والبرجوازية مروراً بالثورة الصناعية التي رسخت إيمان الشعوب بالعلم والمنطق حتى وصلت إلى أقسى التجارب على الإطلاق، ألا وهما الحربان العالميتان الأولى والثانية، التي علَّمتهم درساً قاسياً عن " الوطنية".
ككل الحروب في العالم هناك مصالح تصب في جيوب ذوي النفوذ والسلطة في العالم وهذا ما غفل عنه الأفراد البسطاء الذين حاربوا في الصفوف الأولى بعد تلبية نداء "الوطن" وضحوا بأرواحهم وهم يشعرون بكل فخر أنهم أبطال، وحازت أسرهم على أوسمة الشرف التي عزّت وواست حزنهم على موتاهم حتى وجدوا أن الوطنية مجرد خدعة استخدمها الجنرالات تزج بأبنائهم في الحروب، بينما يعيش هؤلاء الجنرالات حياة فخمة على حساب دمائهم، بل ويرتقون من منصب إلى منصب أعلى مستخدمين مبادئ الحرية والوطنية كوسائل لخداع الناس، إذاً لم يعد أحد يؤمن بالوطنية ورغب الناس إلى حياة مدنية بعيدة عن النزاعات واستغلال أصحاب النفوذ، ورجال الدين.
عودة إلى البلاد العربية التي تعج باستغلال الدين والوطنية والديمقراطية وغيرها من المبادئ؛ لتأتي بالمزيد والمزيد من الحروب والنزاعات والأزمات في شتى أنحاء البلاد، التطرف الديني منه والإلحادي، والأحزاب السياسية التي قسمت البلاد بدلاً من أن تدعم الديمقراطية.. إلخ، فهي تعيش مراراً وتكراراً ما عاشته أوروبا في القرون الوسطى، فلم يعد للعلماء مكان في البلاد العربية، فكلما وجدنا عقلاً يانعاً رأيناه يجد نفسه في بلاد الحضارة الغربية ليجد التقدير والدعم، ولا يعني هذا أن العلماء إبان الحضارة الإسلامية قد استقبله مجتمعه برحابة صدر، فقد تم تكفير الكثير من العلماء والفلاسفة المسلمين في زمنهم، رغم أنهم الآن مصدر فخر للمسلمين، فابن سينا، على سبيل المثال لا الحصر، كان يلقب بإمام الملاحدة، والرازي الذي اعتبر العقل والمنطق هما طريق الإنسان إلى الله، اتهمه الأصوليون بأنه زنديق ودفع ثمناً غالياً مقابل آرائه التي أعجب بها الغرب لاحقاً، أما الكندي فقد تم جلده خمسين جلدة بالسوط بأمر من الخليفة المتوكل، هؤلاء وغيرهم ممن قامت على أكتافهم حضارة الإسلام، واعتمدها الغرب كأهم الركائز العلمية والفلسفية لتنويرهم خاضوا في زمنهم وبلادهم معارك ضارية مع الأصوليين والرجعيين الذين تمتلئ بهم بلادنا حتى يومنا هذا.
يبقى السؤال المحير حتى الآن هو: ماذا ننتظر حتى نتخذ نقلة نوعية للخروج من عصر الظلمات إلى أعتاب الحضارة؟ هل ننتظر زعيماً كوبياً أم "جنوب إفريقي" ليناصرنا وينشلنا مما نحن فيه؟ لا شك أنهم لن يقدموا لنا سوى الشعور بالشفقة تجاهنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.