"اصنع الفُلك يا نُوح؛ فقد آن وقت الرحيل".
لا أعلم ماذا سيكتب المؤرخون عن مصر ما بعد ثورة يناير/كانون الثاني حتى اليوم الأخير من عام 2016. ولسُت بمُنجّم حتى اطلع على غيب السنة الجديدة.
مصر الآن، بها ما يملأ الأرض من ظُلم وفساد، وتدهور للحالة الاقتصادية، وزيادة نسبة التطرف، وتجريف للوعي، والتنازل عن التراب المُقدّس الذي أقسم من يحكموننا على حمايته. لا! بل اليأس والبطالة يُكللان تاج عرش القيصر.
ندور في فراغ مُحكم، تتوالى الأحداث المُفزعة كل يوم، كل شهر، نفيق من حادثة على كارثة، نأخذ قسطاً من الراحة فنستيقظ على ارتفاع جنوني في كُل شيء؛ غذائنا، دوائنا، أبسط مُتطلبات الحياة تؤخذ عُنوة من بين أعيننا.
الناس ليست راضيةً، وأقصد بالناس هُنا جميع الطبقات، وخاصة الفقراء أو بقايا المتوسطة. في كل مكان نسمع الأنين؛ في كُل حارة وشارع وقرية ومدينة وفي أقصى الجنوب، الشعب يُحدّث نفسه في الخلاء وبالشوارع! هم ليسوا قادرين على الحياة أو حتى على الاستمرار في العيش، يتألّمون حقاً بلا مُجيب إلا قابِل الشكوى، الله جل جلاله.
آلاف المُعتقلين الأبرياء، منهم كُثر ينامون بغُرف ضيقة في برد قارس تئنّ له الضلوع بلا مُجيب لشكواهم.
حتى وإن حدثت إنجازات فلن يشعروا بها ما دام هُناك ظُلم واقع على أفراد منهم أو من ذويهم، لن يُساعدوا الرئيس أو الحكومة طالما يرى كل منهم أنهم فقط من يتأذون.
دعك من هؤلاء الإعلاميين الذين يخرجون على الملأ يُطالبون الشعب بأشياء، هُم أنفسهم لا يستطيعون تنفيذها، هل من الممكن أن تطلب من أحدهم أن ينزل في ازدحام المترو الخانق؟ في طوابير السلع على عربات الجيش المُحملة بالبضائع تُلقيها لضحايا الأسعار والمجاعة المُصغّرة؟
لا، لن يفعلوا؛ سيظلون يُساندون السُلطة حتى يبقوا في الشاشات يطلّون علينا كل يوم وعلى عقول الناس يشوهونها، هم أشبه بالمتطرفين الذين يُفجّرون أنفسهم جراء الحصول الشهادة، فدورهم أشد وأعنف؛ لأن بوق إعلامهم يُخاطب الآلاف؛ بل الملايين ممسوحي العقل الذين يتبعونهم.
من الممكن أن تُقابل شباباً من مختلف الأفكار والأعمار، أخبِرهم عن أمانيهم سيقولون لك قولاً واحداً: "اللهم هجرة"!
دعك من السياسة الخارجية التي أصبحت بلا معنى واضح ومفهوم، أين الحُلفاء ومع من نسير؟ هل تابعون أم متبوعون؟ الأولى أقرب إلى الحقيقة. دعك من التعليم الذي هو كما نقول: "حدِّث ولا حرج"! لا أعلم هل توجد منظومة تعليمية لتُخرج جيلاً ينهض؟! لا أظن.
دعك من السابقة التاريخية لإصدار حُكم بحبس نقيب الصحفيين "لإيواء" صحفيين كانوا ينادون بمصرية الجزيرتين! دعك من المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي أقالوه من منصبه، ثم طبق القانون عليه سنة مع إيقاف التنفيذ وتغريمه أموالاً، فقط لأنه أشار إلى وجود فساد!
ثم انظر إلى الطائرات التي تُخطَف، والطائرات التي تسقط جراء مهازل أمنية في ساحات المطار! دعك من تقارير حقوق الإنسان التي تصدر باستمرار لتدين ما يحدث في مصر! دعك من فساد الأفراد، والملايين التي تُكتشف كل فتره لسرقة أو فساد ولا نعلم أين ينتهي التحقيق! حتى وإن انتهى فهناك شعور دائم عند المصريين بأن "الدفاتر دفاترهم والأوراق أوراقهم".
لا أحد يُصدِّق الحكومة تماماً في أي شيء، هي تُعالج النتيجة ولا تعالج السبب دائماً؛ تبني المستشفيات لعلاج فيروس سي ولا تعالج مشكلة الصرف، تقاوم الإرهابيين بالأسلحة ولا تنهض بتعليم يناوئ تلك الأفكار المُتطرفة.
دعك من كل ذلك وانظر بعين ثاقبة في شيء آخر، وهو تغيير الرئيس، لا ينتهون من ترديد الجُملة المعهودة لديهم: "من البديل؟!" وتخرج الشائعات والأقاويل وجس نبض الشعب بترشُّح نجل الرئيس الأسبق للرئاسة.
لا أعلم من مُخرج تلك المسرحية الهزيلة، ولكن يجب أن يعلم الجميع شيئاً واحداً؛ وهو أن الإشكالية ليست في تغيير الرئيس العسكري، ولكن الإشكالية الكُبرى في المنظومه العسكرية التي تحكم، هي لن تُعطي الحُكم أبداً إلى شخص آخر بعد تجربة الإخوان المسلمين في الُحكم وبعد حديث العامة والمستثمرين عن توغُّل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري في كل شيء، فقد ثبّتت حُكمها ليس فقط بالوصول للحُكم، إنما بقواعد اقتصادية تمكنت من خلالها من السيطرة على مفاصل الاقتصاد بشكل كبير، ما جعل رؤوس الأموال تهرب ولا تستثمر؛ هذا بسبب الإعفاء الذي تأخذه المؤسسة العسكرية من الجمارك والأيدي العاملة المُتمثلة في "الجنود والضباط وضباط الصف"، وأيضاً داخلياً بالنسبه لاستهلاك الكهرباء أو الماء أو أي شيء، لذا تُصبح هي المُسيطر والمُحتكر الأوحد لتلك السلع بلا منافس تماماً.
السؤال هُنا: كيف يتم نزع أو تغيير هذا الفكر الاستحواذي على الوطن؟ كأن الوطن لهم والوطنية للفقراء كما قالوا مُنذ أمد! إذا أُمكن هذا، ولن يحدث، فهنيئاً لنا بوطن يتسع للجميع، إذا لم يُمكن تحقيق ذلك ولن يحدث، فلتهاجروا أو ابقوا كما شئتم.
إن الأوطان العربية أصبحت طاردة لأبنائها وشبابها كما كانت من قبل، الحياة في مصر كالجحيم الخفي يتنقل من بيت لبيت ونفْس إلى أخرى، إلا من داخل دوائر النظام والمُستنفعين من وراء وجوده، وهم كُثر ولكن أن انتفض الشعب فلن تجدهم إلا على أبواب الطائرات يُحلقون بعيداً تاركين فعلتهم، تاركين الشعب يأكل الأخضر واليابس، إن بقي أخضر!
نحن نُعاني في مصر، أكتب هذا حتى يكون هناك تاريخ بديل غير ما تكتبه السُلطة أو يكتبه المُنتصر،
حتى إذا جاء يوم لأبنائنا وبناتنا يعلمون أين الحقيقة.
أعلم أن النور قادم، والأمل لن ينتهي لبناء وطن ينهض بأبنائه، وليس فقط بالعقليات الأَمنية التي أصبحت شريكاً في الروح الانهزامية التي أصابت الجميع، وخاصة الشباب.
اتركونا وارحلوا، خذوا الأموال وارحلوا، خذوا كل شيء واتركوا لنا الوطن، اتركوا لنا الأمل نعيش به.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.