السياسة الخارجية لتركيا بعد الربيع العربي: كيف وصلت أنقرة إلى تبنِّي سياسة المشاركة الانتقائية؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/29 الساعة 10:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/29 الساعة 10:45 بتوقيت غرينتش

تُعَد الدوافع التي تحرك السياسة الخارجية التركية مسألة مصحوبة بالجدل، فخلال فترة تولي أحمد داود أوغلو لرئاسة الوزراء في تركيا، صوَّر الخبراء أنقرة على أنها مدفوعة بأيديولوجيتها، وهو ما قادها إلى التوسعية والمغامرة، وولَّد حالة من التوتر المتصاعد مع الدول المجاورة لتركيا، إلى جانب التوتر في العلاقات مع القوى الدولية. وعندما تولى بن علي يلدريم رئاسة الوزراء، تبنَّي حزب العدالة والتنمية الحاكم، والرئيس رجب طيب أردوغان، نبرةً أكثر تصالحية. فقد أعلن أردوغان على الملأ في أبريل/نيسان 2016، أن تركيا بحاجة لكسب المزيد من الأصدقاء وتقليل عدد أعدائها. وقد نُظر إلى أنقرة بعد ذلك بأنها تتبنَّى سياسة تقوم على الحذر، والواقعية، والنفور من المخاطر. ومما أعطى مصداقيةً لهذه النظرة، سياسة الانفراج الدولي والتحسن الملحوظ في العلاقات مع إسرائيل وروسيا حالياً.

لكن سرعان ما أصبحت هذه النظرة إلى سياسة تركيا غير صحيحة. فبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز، بدأت تركيا تنتقد علناً ما ترى أنه لا مبالاة غربية تجاه التحديات التي تواجهها أنقرة. وهكذا، ظهر من جديدٍ النقاش الدائر منذ فترةٍ طويلة حول الولاء الحقيقي لتركيا، فهذه المرة يبدو أن تركيا سوف تنتقل من التحالف مع الغرب نحو تحالفٍ مفترض مع روسيا. علاوةً على ذلك، بدأت تركيا في تنفيذ عملية درع الفرات بشمال سوريا، والتي تهدف إلى إبعاد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) عن المناطق الحدودية، ومنع وحدات حماية الشعب الكردي (YPG)، المنسوبة إلى حزب العمال الكردستاني (PKK)، من السيطرة على المنطقة الحدودية مع تركيا. كما أصرت تركيا أيضاً على الانضمام إلى أية عملية لتحرير مدينة الموصل العراقية من تنظيم داعش. وعند النظر إلى كل ذلك معاً، فإن هذه الإجراءات تبين أن تركيا لا تسعى إلى تقليص طموحات سياستها الخارجية ولا تلقي بالاً بتبني نبرة تصالحية في المنطقة عندما تشعر بأن مصالح أمنها القومي معرضة للخطر. كما أن إعلان أردوغان عقيدة الأمن الوقائي الجديدة تجاه التهديدات الداخلية والخارجية يعد بمثابة استمرار لهذا الاتجاه.

الجدير بالذكر أن السبب وراء فشل العديد من التفسيرات الشائعة في توضيح مسار السياسة الخارجية التركية، هو التركيز المفرط لتلك الروايات على ممثلٍ واحد، سواء كان أردوغان أو داود أوغلو. في الواقع، فإن المتطلبات الجيوسياسية الإقليمية، جنباً إلى جنب مع المخاوف السياسية الداخلية لأنقرة، والتحديات الأمنية، تُعَد بمثابة العوامل التي شكلت المعالم الرئيسية للسياسة التركية في السنوات الأخيرة.

خروج الربيع العربي عن مساره

في البداية، كان التركيز الرئيسي للثورات العربية مُنصَبّاً بشكلٍ أساسي على المطالب السياسية، ومن خلال تاريخٍ طويل من الديمقراطية البرلمانية الفاعلة، حتى وإن واجهت بعض الصعوبات في بعض الأحيان، كانت تركيا قادرةً على فهم التطلعات الديمقراطية للشعوب العربية، كما أسهمت الهوية الدينية لبعضٍ المجموعات البارزة داخل هذه الاحتجاجات بشكل أكبر في دفع حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا لتقديم الدعم لهذه الجماعات؛ لاعتقادها أن الهويات المشتركة والمطالب السياسية من شأنها أن تخلق أسساً للتعاون بمجرد استقرار الأوضاع بالمنطقة.

في ذلك الوقت، اعتبرت تركيا أن التغيير في المنطقة لا مفر منه، وألقت بثقلها لدعم الانتفاضات. ومن خلال رؤية الأحداث بطريقة ثنائية، تبنت تركيا رؤيةً للمنطقة بأكملها؛ إذ تنبّأت بصعود نظام إقليمي وديمقراطي جديد تلعب فيه تركيا دور القيادة.

أما اليوم، فقد أدت 4 أحداث رئيسية إلى قيام تركيا بإعادة النظر في الافتراضات الخاصة بسياستها الخارجية والتي استلهمتها من حقبة الربيع العربي: كان الأمر الأول هو تحوُّل الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية شاملة في أواخر عام 2012 وأوائل عام 2013. أما الأمر الثاني، فهو الانقلاب العسكري بمصر في يوليو/تموز 2013. هذه الأحداث أظهرت أن موجات التغيير التي اندلعت في العالم العربي قد تتعرض للإجهاض. الأمر الثالث هو صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سوريا والعراق منذ 2013-2014 فصاعداً، ما دفع المجتمع الدولي لإعطاء الأولوية للأمن في المنطقة بدلاً من دعم ورعاية التحولات الديمقراطية الناشئة حديثاً. بالإضافة إلى ذلك، استغلت بعض الدول في المنطقة، مثل: سوريا، والسعودية، وإيران، صعود تنظيم داعش لزيادة الاستقطاب بين طوائف العالم العربي، ولنزع الشرعية عن الحركات الإسلامية السائدة. وفي الغرب، كانت العلمانية الليبرالية تحرض ضد الديمقراطية، الأمر الذي أدى بدوره إلى تقلص الدعم الغربي للانتفاضات العربية بشكلٍ عام، ولجماعات المعارضة السورية بشكلٍ خاص.

أخيراً، فقد تسبب تنظيم داعش في صعود الحركات الكردية في كلٍ من سوريا والعراق، وقيامها بتوسيع الأراضي الواقعة تحت سيطرتها بعد اكتساب تعاطف المجتمع الدولي، والشرعية، والمساعدات العسكرية. وحدثت نقطة التحول الأكثر شهرة في هذه المسألة بعد حصار تنظيم داعش مدينة كوباني، البلدة الكردية السورية، في سبتمبر/أيلول 2014. ومع دعم الولايات المتحدة الأميركية، والميليشيات الكردية العراقية (البيشمركة)، تم اجتثاث داعش من هناك.

نتيجةً لهذا النصر، اعتُبرت وحدات حماية الشعب الكردية بمثابة قوة مقاتلة قادرة ومشروعة. كما أدت هذه المعركة إلى تشجيع المشاعر القومية الكردية في المنطقة، ما أدى إلى ظهور مجال عام كردي إقليمي. للاستفادة من هذه الشرعية والتعاطف المكتسب حديثاً على المستوى الدولي، (وكذلك المكاسب الإقليمية الكردية)، تبنَّى حزب العمال الكردستاني موقفاً تفاوضياً أقوى ضد تركيا. ومع انهيار عملية السلام الكردية الموعودة، وإطلاق حزب العمال الكردستاني حرب شوارع ضد السلطات التركية، مستوحاة من الحرب الدائرة في سوريا، بالمناطق الشرقية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية في تركيا خلال العام الماضي، أعطت تركيا الأولوية للأمن القومي، وأهملت المبادرات السياسية، وعدلت سياساتها الخارجية الإقليمية وفقاً لذلك.

الأكثر سوءاً من ذلك، هو أن تنظيم داعش نفذ هجماتٍ داخل تركيا؛ إذ استهدف في البداية الجماعات الكردية واليسارية باعتبارها امتداداً لحربه ضد وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، كما كان الحال في الهجمات التي وقعت بسروج، وديار بكر، وفي محطة القطار بأنقرة. وفي الفئة الثانية من الهجمات، نفذ داعش عملياتٍ انتحارية في منطقة السلطان أحمد، وبشارع الاستقلال، وفي مطار أتاتورك، وكانت هذه الهجمات الأخيرة في معظمها ضد السياح والأجانب، وكان الدافع المحتمل وراء هذه الهجمات هو انضمام تركيا إلى التحالف الدولي ضد داعش. هذه الهجمات فاقمت تحديات الأمن القومي التركي، ما كان له أثر كبير على سياسة تركيا الإقليمية.

القوى الخارجية

في الوقت الذي شعرت تركيا فيه بأنها أكثر عرضةً للتهديد من قِبل حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، بدا أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يتجاهلون مخاوف أنقرة، وذلك من خلال مشاركتهم ودعمهم لوحدات حماية الشعب الكردية، المنظمة الشقيقة لحزب العمال الكردستاني، في حربها ضد تنظيم داعش بسوريا. علاوةً على ذلك، ورغم عدم الارتياح في تركيا، حافظت الولايات المتحدة على تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية، وهي تحالف يضم وحدات حماية الشعب الكردية باعتبارها العمود الفقري للتحالف؛ إذ استخدمتها واشنطن كقواتٍ برية أساسية في تحرير مدينة منبج، وهو الأمر الذي أعطى هذه القوات موطئ قدم قوياً آخر في الجزء الغربي من نهر الفرات. قرب هذا الأمر وحدات حماية الشعب الكردية أكثر من تحقيق هدفها النهائي المتمثل في الاستيلاء على الأراضي المتبقية بين مدينتي كوباني وعفرين لخلق منطقة جغرافية متصلة بين الأقاليم الثلاثة. وتدخلت تركيا بعدها لمنع مثل هذه النتيجة. أسهم كل هذا بالفعل في توتر العلاقات بشكل أكبر، وانخفاضٍ حاد في مستوى الثقة بين تركيا والغرب.

في الوقت نفسه، وجدت تركيا نفسها على خلافٍ مع إيران. ونظراً لأن السياسة الإقليمية التركية قد اقتصرت على أنشطتها في شمال العراق وشمال سوريا، فإن القوة الإقليمية التي تتصارع معها تركيا بشكلٍ أساسي على النفوذ والسلطة هي إيران. وفي البيئة الإقليمية الحالية، تُعَد تركيا في وضعٍ سيئ؛ إذ كانت تركيا قادرةً على التعامل بشكلٍ أفضل مع ظواهر الربيع العربي عندما كان التركيز مُنصبَّاً على المطالب الاجتماعية-السياسية والاقتصادية-الاجتماعية. لكن عندما تحولت الثورات إلى حروبٍ عرقية وطائفية، عزز ذلك من قوة إيران، التي كانت تستثمر منذ فترةٍ طويلة في دعم الميليشيات الشيعية التي تعمل بالوكالة. عكس تركيا، تعول إيران على مجموعة من الوكلاء والميليشيات الشيعية المتحفزة، من العراق إلى اليمن ومن سوريا إلى لبنان. وهذا يعطي سياستها الإقليمية أساساً قوياً.

ولمواجهة النفوذ المتنامي لإيران، والتي تتعارض أهدافها مع أهداف تركيا، سعت أنقرة إلى بناء شراكات مع حلفاء محليين وإقليميين. ففي سوريا، سعت تركيا لتحقيق أهدافها من خلال دعم معارضي نظام الأسد بثبات، وهي القوات المعادية لإيران أيضاً، ولكن نجاحها في ذلك كان محدوداً. وفي العراق، حاولت تركيا الحدَّ من النفوذ الإيراني الكبير في البلاد من خلال تحالفها مع حكومة إقليم كردستان، وخاصةً الحزب الديمقراطي الكردستاني، والعرب السُّنّة. وكان منطق تركيا في السعي للعب دور في عملية استعادة السيطرة على الموصل من تنظيم داعش، هو الحد من نفوذ إيران (وحليفتها الحكومة المركزية العراقية) عن طريق منع أي تغيير في التوزيع الديموغرافي في الموصل وما حولها، ومنع حزب العمال الكردستاني، الذي يوجد غرب الموصل، من الاستفادة من هذه العملية الفوضوية. وعلى المستوى الإقليمي، بدأت السعودية وتركيا في التعاون لمواجهة التوسع الإيراني؛ إذ دعمت تركيا التدخل السعودي في اليمن، ودعت إيران إلى الانسحاب من البلاد. ولم يتوقف الدور التركي عند هذا الحد؛ بل اقترحت أنقرة تقديم الدعم اللوجيستي للعملية، كما تعاونت بشكلٍ وثيق مع السعودية في سوريا.

السياسة الخارجية المستقبلية

يبدو أن تركيا الآن لديها سياسةٌ خارجية مدفوعة بمخاوفها الأمنية، وتتمحور حول التحالفات القائمة على مسائل بعينها. مؤسسياً، لم يكن هناك أي انحراف كبير بعيداً عن حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعن التوجه الغربي، لكن أنقرة لم يعد لديها وضوح الرؤية نفسه الذي امتلكته في فترة ذروة الانتفاضات العربية. ولم يتحقق حتى الآن توقعها المتعلق بانهيار النظام الإقليمي القديم والاستعاضة عنه بأنظمة أخرى جديدة تكون أكثر ملاءمةً لمصالحها. وحتى الآن، لم يبقَ أمام تركيا إلّا التعامل مع أية تحديات قد تنشأ في المستقبل، فالتعامل مع المخاوف الأمنية المرتبطة بالأزمات الإقليمية أصبح هو الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية التركية الحالية. وفي المستقبل القريب، سوف تتبنى أنقرة ما يسمى سياسة المشاركة الانتقائية في المنطقة، حيث ستؤجل مؤقتاً التعامل مع المسؤوليات في المناطق التي تعتبرها ذات أهمية ثانوية، في حين ستخاطر وتستثمر الوقت، والمال، والطاقة، والدم في المناطق المتعلقة بمسائل أمنها القومي.

– نُشرت هذه المقالة لأول مرة بمجلة فورين أفيرز في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2016

– هذا الموضوع مترجم عن منتدى الشرق. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد