تنزيل القرآن يعني الدين سياسة

وفي معنى التنزيل: "التسخير والتذليل وأن يكون المنزّل أليفاً طيِّعاً في متناول يد الإنسان وقدرته، كما هو المعنى في إنزال ثمانية أزواج من الأنعام "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"، وكما هو المعنى في "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير".

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/24 الساعة 01:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/24 الساعة 01:58 بتوقيت غرينتش

"تنزيل القرآن" تعبير في معناه أن الإسلام دين السياسة.
أغلب الأنظمة المستبدة في العالم العربي اتخذت لنفسها أحزاباً وطروحات لم يكن فيها عامل مشترك إلا العلمانية، بمعناها الذي يفصل الدين عن الدولة، أو يبعد الدين عن السياسة، وكان المستبدون يحاولون دائماً أن يربطوا سلطتهم الغاشمة بأي تبرير أو تأويل ديني يوفره لهم شيوخ السلاطين المحترفون الجاهزون.

المشايخ الجاهزون دائماً تحت أمر أي حاكم غالب مهما كانت طريقته في الغلبة، جعلوا الدين في خدمة السلطة، بل أدخلوا ديناً خاصاً، وبرروا فيه للسلطة وحرّموا فيه الخروج على السلطة، لقد وفروا للمستبدين "أفيوناً قوياً للشعوب"، أما الإسلام الحق فهو الخطر الوحيد المزيل على المستبدين وأتباعهم، ولا سبيل لإدامة حكمهم وسلطتهم ولو لبضع سنين إلا أن يبعدوا دين الإسلام الحق عن السياسة بأي شكل وبأي ثمن.

لقد كان ذلك عند المستبدين المحترفين وأتباعهم ضرورياً لازماً للحفاظ على المميزات التي خصّوا بها أنفسهم من مال منهوب، وجاه عظيم، وسلطة ممدودة حازوا عليها عبر طغيانهم وهيمنتهم على الحكم طوال العقود الماضية، ولا يقدر على الذهاب بكل ذلك كله إلا دين الإسلام القويم، بما فيه من عدل ومساواة ومحاسبة.

والعلمانيون العرب ساند أغلبهم المستبدين، بعضهم بقصد وبعضهم من غير قصد، فنظّروا وأطّروا ونشروا الأفكار التي سموها العلمانية، ومؤداها كان إبعاد الدين عن الدولة والحاكم، وإخراج الدين من السياسة، فلعب المستبدون بمقدرات الشعوب بلا رقيب أو حسيب، والتصقت بذلك العلمانية الرسمية وغير الرسمية بالاستبداد والظلم والديكتاتورية، ولم تجنِ منها البلاد العربية سوى التخلف والتقهقر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

يقول بعض العلمانيين العرب ممن يمثلون فئة تُغلف وتناور وتتوغل برفق وتُظهر حرصاً على الدين ونقائه فتقول: "إن إدخال الدِّين في السياسة مفسدة للدين والدولة؛ لأن السياسة بها ألاعيب وحيَل وأكاذيب، والدين ليس كذلك، ويضيفون "الدين يمثل ما هو مطلق وثابت، بينما تمثل السياسة ما هو نسبي ومتغير، السياسة تحركها المصالح الشخصية أو الفئوية، أما الدين فيجب أن ينزه عن ذلك، وإلا فقد جوهره وروحه".

وما هو غريب في طرحهم عجيب في عباراتهم يتمثل في سؤال كبير: ولماذا تكون سياستنا ألاعيب وحيلاً وأكاذيب؟

السياسة منذ مئات السنين وأكثر تتحكم في كل شيء، تتحكم بالأمور الحياتية والمعاشية كلها.. السياسة تتحكم بالاقتصاد ومعاش الناس، ويصل تحكمها في ذلك حتى إلى رغيف الخبز وشربة الماء.. السياسة تتحكم بالتعليم والصحة والخدمات.. السياسة تتحكم بالحريات والعلاقات الاجتماعية.. السياسة تحكمت حتى بالرياضة والفنون.. السياسة دخلت حتى مخادع النوم، واخترقت ما وراء الأبواب والجدران.. السياسة دخلت إلى كل مكان وفي كل جانب في الحياة.. فإذا كانت السياسة بعد كل ذلك عالماً من القذارات والأكاذيب فستكون كل الحياة قذارات وأكاذيب، وهذا ما حصل ويحصل ويهيمن فعلاً في هذه الأيام في عالمنا المعاصر.. وهذا أدعى وأوجب وأعجل أن نسارع إلى النقاء والصفاء والارتقاء وبشكل أدق أن نسارع إلى الإصلاح بتفعيل الدين القويم.

ومن يتدبر القرآن، منبع الدين القويم، ليس فقط يعرف بل يعلم أن في معنى لفظ "تنزيل القرآن" أموراً كثيرة، منها أنه نزول للتعليمات والتشريعات والكلمات، نزول مخالطة لواقع الناس وما ينفعهم ويصلح شأنهم دون مثاليات محلقة في السماء بعيدة عن ضعف الإنسان وأهوائه، إنه كتاب نزل لواقعنا ولمشكلاتنا، ولينظف قاذوراتنا، وكلمة التنزيل ومشتقاتها أصر عليها القرآن في وصف طبيعته، ربما لن تجد ذلك واضحاً في الكتب، ولكنك ستجده في التأمل والتدبر، وعلى العلمانيين وغيرهم أن يفتحوا الأقفال عن عقولهم ليتدبروا القرآن ويفقهوه.

"لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم"، فيه ذكركم وما يشرفكم ويرفع مكانتكم ومنزلتكم في الدنيا خاصة، نزل إلى واقعكم ليصلحه ويرفعه، وليجعلكم تتصدرون سائر الأمم، وقد حدث ذلك للمسلمين في عصور نهضتهم بشكل مدهش هائل فأصبح الأمر مجرباً مثبتاً.

وفي معنى "التنزيل" التيسير والتسهيل والتليين: فعن الحديد ذكر القرآن الكريم: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس"، فجعل الله في الحديد خاصية المطاوعة، وأن يلين، على صلابته يلين ويُصهر، فتكون منه آلات القوة والبأس من سلاح ودروع "وألنّا له الحديد".

وفي معنى التنزيل للقرآن: التكاليف الممكنة، إنه إنزال عن كاهل الإنسان لكل ما يُرهق ويُثقل ليكون مُمكناً مُستطاعاً فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والدين القويم يسر ولين، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه.

وفي معنى التنزيل: "التسخير والتذليل وأن يكون المنزّل أليفاً طيِّعاً في متناول يد الإنسان وقدرته، كما هو المعنى في إنزال ثمانية أزواج من الأنعام "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"، وكما هو المعنى في "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير".

وفي معنى "تنزيل القرآن": أن القرآن نزل إلى مستوى عقول الناس وإدراكهم، ونزل إلى لغتهم ومصطلحاتهم وقياساتهم العقلية البشرية التي يتبينون من خلالها الأمور "أنزلناه آيات بينات"، وما درج وشاع وفُرض على عامة الناس أن يكون تلقيهم للقرآن عن طريق المشايخ والخواص كان على غير ما أراده الجليل في تنزيل كتابه.

لقد خاطبهم القرآن على قدرهم، ونزل ليكون في متناولهم بين أيديهم، وقد كان في صحف مرفوعة مطهرة بأيدي الملائكة البررة.

وفي معنى "تنزيل القرآن" أنه نزل لحياة الناس العامة والخاصة، نزل لحياتهم اليومية وخاطبهم في كل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يهمل ما يهمهم حتى في الذوق العام والكياسة الشخصية في الزيارات وآداب الولائم والاستئذان.

ولأن السياسة وصلت في تغلغلها وتدخلها إلى كل شأن وكل أمر، ثم فسدت وأفسدت، فلا بد من الدين القويم أن يسرع إليها خاصة؛ ليصلحها ويطهّرها، ليصلح بصلاحها جسد الأمة كلها، فالسياسة في الدين القويم أساس أكيد يتجلى في أحد أهم المعاني من معاني التنزيل.

ولمن قال ما مختصره إن السياسة نجاسة، والدين نهجٌ طاهر يجب أن يُنزه عنها ويبتعد، نقول له: "إنه لمن البديهي الأكيد أن الله جل شأنه لم يُرسل الرسل وينزل الكتب والأديان إلا حين اشتد الفساد واشتط وعمَّ، وعندما طال التلوث الاعتقادات والأفعال"، والإسلام خاتم الرسالات، اختصاصه إصلاح ما فسد ومن فسد، وإزالة ما استعصى ومن أصر وطغى.

أما لمن يقول إن العصر الذي طُبق فيه الدين يناسب الحياة التي كان عليها الناس في ذلك الزمان، ولا يمكن للدين المنزل كتابه منذ 1400 عام أن يحكم العصر الحديث الذي نعيش فيه، وأن يلبي حاجات الناس المعاصرة نقول: إن القصور في ذلك هو قصور وتقصير للعلماء الذين أوقفوا الاجتهاد وأوقفوا تجديد الفقه الذي كان أساساً وشاغلاً لا يتوقف عنه الفقهاء، فالدين القويم يختص بقدرته على الوفاء بحاجات الناس المتجددة، من خلال تنوع مصادره وكثرة أصول الفقه فيه.

ولمن يقول إن من يحكم بالدين يدّعي القداسة ويهدد بهذه القداسة من يعارضه فيتهمه بأنه خارج على الدين بينما التشريع البشري الخالص، الذي يصنعه البشر بأنفسهم غير مستندين فيه إلى الدين، لا قداسة له عند واضعيه ولا عند معارضيه، ومن ثم يناقش بحرية، ويعدل أو يلغى إذا اقتضت الضرورة بغير تحرج ولا خوف.
نقول لهم لا يوجد في الإسلام ما يسمى "الدولة الدينية"، فالحاكم في الإسلام لا يعدو أن يكون ممثلاً عن الأمة لا ممثلاً عن الإله، ناهيك عن أن اختيار الحاكم يتم في الإسلام من خلال الشورى واختيار الناس، وأنه لا يعدو أن يكون منفذاً ومطبقاً تحت رقابة ومساءلة الأمة أفراداً ومجالس، وهكذا كان الأمر في التطبيق الفعلي للدين القويم الذي جعل امرأة مسلمة تنتقد عُمَر، وتنقض قراره في أمر فيه قانون وتشريع كان يخص تحديد المهور في وقتها.

وإذا قيل: بفهم أي جماعة أو فرقة سنطبق الدين هل بفهم السلفيين أم الإخوان أم غيرهم؟ فنقول لهم: يجب على الناس أن يختاروا.. يختاروا من يجدد الفقه ويُخرجه، ومن لم يستطع تجديد الفقه، فعلى الأمة أن لا تجعل له دوراً ولا رصيداً.

وهناك في هذا الموضوع الكثير والكثير من الوهم والضياع والارتباك، ولا نستطيع أن نتهم كل المرددين القائلين بفصل السياسة عن الدين أنهم أعداء كارهون للدين؛ لأن المشايخ "العلماء" المعنيين توقفوا منذ زمن طويل.. توقفوا عن تجديد الفقه، ومنهم من أغلق باب الاجتهاد، وتوقفوا عن الاستنباط والإجماع والقياس وتفعيل العرف الموافق، وضيعوا الاستحسان والاستصحاب، ولم يستثمروا مقاصد الشريعة ولم يخرجوا فقه الأولويات، وأغفلوا فقه الضرورة وأسساً وأصولاً كثيرة ثرية، ضيَّعوها وأضاعوا الأمة بتضييعهم، لقد كانوا سبباً عظيماً في ابتعاد الكثيرين، وارتباك الدارسين، وضياع الباحثين، وتآمر المتآمرين الكارهين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد