اغتيال محمد الزواري يعيد البوصلة باتجاه فلسطين

اغتيال الشهيد محمد الزواري بعث برسالة بالغة الأهمية ليس للتونسيين فحسب، بل لعموم المنطقة العربية الغارقة في بحر من الأزمات والصراعات الداخلية المدمرة، بالحاجة الماسة لإعادة التوازن المفقود بين الوطني المحلي والقومي الأوسع و ضرورة الوعي بمركزية القضية الفلسطينية والتصدي للمشروع الصهيوني.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/22 الساعة 09:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/22 الساعة 09:25 بتوقيت غرينتش

بدا تعرض مواطن تونسي يدعى "محمد الزواري" يوم الخميس 15 ديسمبر الى طلق ناري امام بيته بمدينة صفاقس في الجنوب التونسي حدثا شبه عادي لا يستحق التوقف عنده كثيرا، يندرج في نطاق ما يعرف بجرائم الحق العام. لذا، لم يحضر الجنازة سوى بضع أفراد من العائلة واكتفت وزارة الداخلية في ذات اليوم بإصدار بلاغ بالعثور على جثة مواطن تونسي قتيلا داخل سيارته نتيجة طلق ناري.

بيد أن تتالي المعطيات المنتشرة سريعا على شبكات التواصل الاجتماعي حول النشاط العلمي للشهيد وتاسيسه لنادي طيران نموذجي بصفاقس واختراعاته لطائرات بدون طيار، والتصريحات المتعاقبة من زملائه أيام الدراسة الجامعية وأصدقائه حول انتسابه لحركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا) وهروبه من تونس زمن بن علي للسودان، ثم إلى سوريا ليعود إلى مسقط راْسه بعد الثورة، بدأت تجلي ما خفي من حقائق وتفتح الأعين على احتمال الاغتيال السياسي.

إلا أن ما قطع الشك باليقين ومنح عملية الاغتيال بعدا سياسيا هو التقرير الذي بثته قناة العاشرة الإسرائيلية الذي أشار بنوع من التباهي إلى أن المخترع محمد الزواري قد تمت تصفيته عن طريق وحدة الاغتيالات الخارجية بالموساد "كيدون"، ثم بيان الجناح العسكري لحماس ومجلس العزاء الرسمي الذي أقامته الحركة للشهيد الزواري الذين كشفا النقاب عن حقيقة انتسابه للمقاومة الفلسطينية.

أحدث هذا تفاعلا كبيرا في صفوف الرأي العام ومختلف القوى السياسية والاجتماعية التونسية امتزج بمرارة عميقة لأن الشهيد لم يلق ما يستحق من التكريم والاهتمام بحكم الطابع السري لعمله.

كما حركت العملية ذاكرة التونسيين بتورط الموساد في جرائم على أرضهم منذ انتقال القيادة الفلسطينية اليها بعد 1982، من قصف مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات في منطقة حمام الشط في 1 أكتوبر 1985، والذي أوقع أكثر من 70 قتيلا من التونسيين والفلسطينيين، واغتيال خليل الوزير (ابو جهاد) الشخص الثاني في القيادة الفلسطينية عام 1988 من طرف وحدة كوماندوس إسرائيلية، الى اغتيال عضوي اللجنة المركزية لحركة "فتح" صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) في قرطاج سنة 1991.

ما يلفت الانتباه هنا هو مستوى التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية عامة، وقد بدا ذلك واضحا من كم التحركات الشعبية التلقائية في مختلف مدن وجهات البلاد، والوفود الكبيرة التي توالت على بيت الشهيد، فضلا عن وحدة الموقف بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية التونسية، ليس فقط في إدانة العملية بل في تأكيد مشروعية النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني الغاشم، والتي ستتوج بمسيرة شعبية حاشدة يوم السبت القادم ستجوب شوارع مدينة صفاقس منبت الشهيد ومثواه الأخير حيث أهرقت دماؤه الزكية الطاهرة.

بالرغم من التجاذبات السياسية والأيديولوجية داخل الساحة التونسية إلا أنه حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية تكاد تختفي الفروقات ويتوحد الموقف، بغض النظر عمن يحمل راية فلسطين، سواء كان من فتح أو حماس أو الجبهة الشعبية أو غيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية.

ورغم انشغال التونسيين بقضاياهم المحلية وأعباء التحول السياسي الذي تمر به بلادهم بعد الثورة وثقل المعيشة على كواهلهم، إلا أن بوصلتهم مازالت معدلة على قضية فلسطين باعتبارها أم القضايا العربية وأعظمها.

الارتباط التونسي بالقضية الفلسطينية ليس مسالة طارئة بل يمتد بجذوره للبدايات المبكرة لتشكل معالم المشروع الصهيوني في فلسطين.

فقد كان للشيخ عبد العزيز الثعالبي أب الحركة الوطنية التونسية ومؤسس الحزب الدستوري، دور مشهود في تنظيم مؤتمر القدس سنة 31. كان الثعالبي بمثابة العضد الأيمن للشيخ أمين الحسيني، يجوب مختلف عواصم العالم الإسلامي لتوجيه الدعوات لعقد المؤتمر وحشد الدعم له والتنبيه الى مخاطر المشروع الصهيوني على فلسطين والامة العربية برمتها. وكان الثعالبي يسخر قلمه ولسانه، وهو الذي كان يوصف بابلغ الخطباء وأفصحهم، في الدفاع عن فلسطين والاقصى.

ومنذ ذلك الحين ترسخ لدى التونسيين وقادتهم السياسيين الوطنيين وعي عميق بالارتباط بين المحلي والقومي، وبين مطلب التحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي ومواجهة المشروع الامبريالي المتمدد في المنطقة والذي استخدم الحركة الصهيونية مخلبا لتمزيق جسد الأمة العربية وإعاقة نهضتها وتقدمها.

إن عنوان الهوية العربية والإسلامية لأهل المغرب العربي بحكم بعدهم الجغرافي نسبيا عن مركز الصراع في المشرق، ثم لكون بلدانهم (والتي كانت تعرف بالغرب الإسلامي والأندلس) مناطق ثغور على أبواب أوروبا، يتكثف في الارتباط بفلسطين وقضية الأقصى، وربما يلمس المرء هذه الحقيقة حنى بين أبناء الجاليات المغاربية في أوروبا من الجيل الثاني والثالث حيث تظل القضية الفلسطينية حاضرة بكثافة عندهم.

هذا ما يفسر المكانة العظيمة للقضية الفلسطينية في وجدان التونسيين والمغاربة عامة منذ وقت مبكّر. ولَم يكن غريبا عدد التونسيين الذين وفدوا إلى فلسطين منذ حرب 48 والقيادات التونسية التي سخرت طاقتها وجهدها في مواجهة المشروع الصهيوني.

هكذا يروي أحد التونسيين الذين تطوعوا للقتال في فلسطين خلال حرب 48 رحلته صحبة كوكبة من رفاقه "ذهبنا إلى فلسطين حفاة عراة، وقطعنا مسافات طويلة على أقدامنا دون أن يؤثر فينا الجوع والعطش والإرهاق لأننا متشوقون لتحرير فلسطين".

اغتيال الشهيد محمد الزواري بعث برسالة بالغة الأهمية ليس للتونسيين فحسب، بل لعموم المنطقة العربية الغارقة في بحر من الأزمات والصراعات الداخلية المدمرة، بالحاجة الماسة لإعادة التوازن المفقود بين الوطني المحلي والقومي الأوسع و ضرورة الوعي بمركزية القضية الفلسطينية والتصدي للمشروع الصهيوني.

هذه التدوينة منشورة على موقع عربي21.. للإطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد