روى لي أحد المطَّلعين أن رفعت الأسد، عم الرئيس السوري بشار الأسد، الذي قام شقيقه حافظ بطرده مع حصته من ثروة البلاد، لا يزال حتى يومنا هذا يتعامل مع حاشينه وموظفيه، كما لو أنّه لا يزال قائداً لسرايا الدفاع؛ حيث يُخضعهم لعقوبات جسدية ونفسية، وكأنه حتى اليوم لا يصدّق أنه أصبح زعيماً على حراسه الأمنيين فقط وهم الذين لا يمتلك سلطة عليهم إلا بقدر ما يدفع لهم لقاء عملهم عنده.
ذكّرتني هذه القصة بلوحة من لوحات مسلسل مرايا للفنّان القدير ياسر العظمة؛ حيث تدور قصة هذه الحلقة حول أحد المسؤولين الكبار الذي يجري تكسير منصبه تدريجياً، وذلك من منصب وزير، وصولاً لمنصب مختار لحيّ متواضع في قرية بسيطة، فكان في كل منصب جديد ينحدر إليه لا يهمه إلا أن يمارس هوايته السلطوية، التي تتلخّص بأن يقرأ جريدته مع فنجان قهوة صباحية حصراً في أثناء انتظار المراجعين لساعات أمام مكتبه ريثما ينهي هذا الطقس، فليس المهم هنا هو المنصب، بل المهم في طقسه الخاص هذا، لذة السلطة في ارتشاف القهوة أثناء انتظار المراجعين لمكتبه، وعلى الرغم من عدم وجود مراجعين لمختار حيّ في قرية بسيطة فإنه كان عندما يصل لمكتبه صباحاً يطلب من المستخدم فنجان قهوة، ويقول له: "رجاء اطلب من المراجعين الانتظار ريثما أنهي فنجان القهوة"، وسط دهشة المستخدم الذي فهم مرضه وأجابه بـ"تكرم سيدي"؛ حيث لا مراجعين في الخارج.
لم تخرج فكرة هذه اللوحة من فراغ، فكل من توظّف في دوائر دولة البعث، أو خدم في جيش دولة البعث يعرف متلازمة حب السلطة والسيطرة، ولو على شخص واحد فقط، وحتى لو كانت سيطرة شكلية فقط.
فمثلاً تجد هذه "المتلازمة" واضحة أثناء أدائك الخدمة العسكرية، وذلك بدءاً من القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، بإضفاء عديد من الصفات والألقاب مثل كلمة "الأعلى" في لقب القائد الأعلى، علماً أنه لم يكن هناك قائد فقط أو قائد أسفل، فتراه مثلاً يأمر بعمل مشروع يكلف جهد آلاف الرجال وعشرات الملايين ليستمتع "القائد الأعلى" بعرض حيّ لقدرات جيشه التي يعرفها مسبقاّ، وترى بعده العماد يتسلط على الألوية، واللواء يتسلط على العمداء، والعمداء يتسلطون على من دونهم، وهكذا دواليك، حتى تصل للعسكري الذي هو دون رتبة، فترى العسكري المنتمي لطائفة النظام يتسلط على العسكري العادي، والعسكري "العادي القديم" يتسلط على العسكري "العادي" الأقل قدماً منه في الخدمة.
هكذا أيضاً كانت تجري الأمور في باقي الفروع الأمنية والشرطة والمخابرات والدوائر الرسمية والموظفين والموظفات، القدامى منهم والجدد.
هذه المتلازمة كان مصدَرها البعثيون داخل أروقة شعب البعث الحزبية، فمثلاً كان رئيس الشعبة يتسلط على أمين الفرقة، وأمين الفرقة يتسلط على الأعضاء العاملين، والعضو العامل يتسلط على العضو النصير، والعضو النصير يتسلط على المواطن غير المنتمي لحزب البعث أبداً، حتى إنك تجد هذه "المتلازمة" اليوم بين اللاجئين السوريين في أوروبا، فترى الّلاجئين القدامى يحاولون التسلّط على الّلاجئين الجدد.
لكن لا شيء يوضّح هذه "المتلازمة" أكثر من مؤسسها بشار الأسد؛ حيث تظهر مشاهد السلطوية بأعلى أشكالها في خطاب أداء القسم، الخطاب الذي تلا الانتخابات الشكلية، قبيل تنصيب بشار لنفسه رئيساً لفترة رئاسية جديدة؛ إذ يستطيع المشاهد العادي رؤية البهرج المبالغ فيه، الذي يطابق البهرج الروسي بنسخته البوتينية، من المراسم العسكرية الخارجية قبيل دخوله القاعة، إلى طريقة فتح الباب الضخم من قِبل ضابطي مراسم، وحتى أصغر التفاصيل في فخامة الصالة وحضور فنانين وإعلاميين ومشاهير وتصفيق حار؛ لتظهر شخصيته التي لا تختلف كثيراً عن شخصية ذلك المسؤول التي أدّاها ياسر العظمة في مراياه، فعلى الرغم من أنه جرى تكسير منصب "القائد الأعلى" لتماثل صلاحيات مختار لحي المهاجرين حيث قصره، وأصبحت روسيا هي الحاكم الفعلي ومصدرة القرارات وعاقدة الاتفاقيات، فإن هذا المسؤول "السابق" لا يزال يحافظ على الشكليّات التي تهمه هو فقط، وما تصفيق الفنانين والمراسم والهتاف بالروح بالدم إلا تلك "الجريدة مع فنجان القهوة" في تلك الشخصية التي جسّدها ياسر العظمة، وفي كلتا الحالتين لم يعد هناك مراجعون على ذلك الباب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.