من بين كل الأسئلة -وكثير منها الوجودي- التي تطرح نفسها بقوة إبان سقوط حلب، وما تشهده من مجازر بحق المدنيين، يتميز سؤال واحد ببساطته المعقدة، كلما حاولنا التغاضي عنه أو التهرب من الإجابة عليه، ينفجر في وجهنا كاللغم المكنون تحت غبار الكسل والخنوع المكدس في قرارة أنفسنا.
ماذا فعلنا لنصرة إخواننا المنكوبين في حلب؟
منذ اندلاع الثورة السورية في ـ2011، نبرع -لا سيما نحن العرب من غير السوريين- بإلقاء اللوم على العالم أجمع فيما خص استمرار الحرب الهمجية التي يتعرض لها الشعب السوري، ولكننا من النادر جداً أن نعترف بتقصير كثير منا تجاه دعم قضية إخواننا السوريين.
نشاهد بحسرة كيف يقوم البعض بإنكار حصول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في حلب، وهم يتلحفون بنظرية المؤامرة وبلغة خشبية عقيمة.
نتألم أمام وضاعة الشامتين وحقدهم، نتلوّع أمام بشاعة احتفالات المتشفين الذين يرقصون بضغينتهم الدفينة على دماء المدنيين، محتفلين بما يدعون أنه "انتصار" للنظام السوري وحلفائه من روس وإيرانيين وميليشيات مذهبية تابعة لإيران.
ولكن ماذا فعلنا عملياً على أرض الواقع للرد على حفلة الكذب هذه وعلى هذا التواطؤ العلني والوقح مع المجرمين؟
نحتار على من نلقي باللوم فيما خص مسؤولية السكوت عن هذه الجرائم، ولكن بشرط ألا تشير أصابعنا الاتهامية إلى أنفسنا، ودون أن نتكبد عناء الالتفات إلى واقعنا ونحن نقوم بتوجيه هذا اللوم، متكئين على كنباتنا، متخمين في دفء منازلنا، متثائبين أمام شاشات وسائل التواصل على اختلافها.
بكلام آخر، جل ما يقوم به معظمنا لا يتعدى التنصل من المسؤولية عما يتعرض له الشعب السوري، وذلك برميها على عاتق الآخرين، فبدل أن نقتدي بتدبير الكيس -وهو من "دان نفسه"- نفضل أن نتصرف كالعاجز الذي "أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
فتارة نتلذذ بإلقاء اللوم على أميركا بسبب تواطئها الضمني، وكيف أنها تكتفي بدور المتفرج على كل هذه الجرائم بسبب سياسة الانكفاء التي يتبعها الرئيس أوباما في الشرق الأوسط، وتارة نلوم أردوغان على مهادنة بوتين وعدم تدخل تركيا عسكرياً في حلب لحماية المدنيين، وأحياناً كثيرة نتفنن بالتهكم على الاتحاد الأوروبي، والتنديد بعجز سياسته الخارجية، بالإضافة إلى إلقاء اللوم على دول هذا الاتحاد بالتقاعس في القيام بواجبها الإنساني في استقبال اللاجئين.
وفي كل المرات، نتبارى في شتم الأمم المتحدة، وأمينها العام، ومجلس الأمن، ومجلس حقوق الإنسان التابع لها؛ لعدم فاعليتهم في ردع هذه المجازر أو وقفها، أو لعجزهم في فرض منطقة حظر جوي أو ممرات إنسانية.
أما الموضوعيون منا، فيمكن أن تصل بهم موضوعيتهم – كحد أقصى- إلى انتقاد خلافات فصائل الثورة السورية وتشرذمها.
طبعاً، كل هذه الإدانات ممكن أن تكون محقة، ولو بنسب متفاوتة، ولكننا قبل أن ننظر إلى تقصير الغير في دعم الشعب السوري، غالباً ما نتناسى الأهم، وهو تقييم دورنا نحن ومسؤوليتنا نحن -أي نحن العرب من غير السوريين- تجاه إخواننا في سوريا، لا سيما فيما يحصل لهم في حلب.
لذلك، فلنقل الأمور بصراحة، بعيداً عن خطاب البارانويا وعن المنطق الشعبوي الذي يرتكز على تأجيج الشعور بالاضطهاد، وبما أن كل أقنعة النفاق الطائفي تتهاوى في المنطقة مع زحف تحالف الأقليات المدعوم دولياً، الذي يقضم المدينة تلو الأخرى في المشرق، ماذا فعلنا نحن -من اصطلح على تسميتنا بالعرب السنة بالتحديد- تأدية لواجبنا تجاه إخواننا في حلب، واحتراماً لحقهم علينا في دعم قضيتهم العادلة؟
فهل اقتدينا بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فتواددنا وتراحمنا وتعاطفنا مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، أو -كما هو الواقع للأسف- تنازعنا ففشلنا وذهبت ريحنا؟
طبعاً، لا يستطيع عاقل أن ينكر المساعدة الجدية التي قدمتها بعض الدول العربية للسوريين في محنتهم، أكان ذلك عبر استقبال اللاجئين وإيوائهم (لا سيما في الأردن ولبنان)، أو من خلال دعم الثورة السورية، ولو غير المتكافئ بالمقارنة مع آلة بطش النظام وحلفائه بالمال والسلاح.
ولكن السؤال الذي يبقى ملحاً هو ماذا فعلت دولنا العربية بقدراتها العسكرية والمالية والاقتصادية لوقف مجازر حلب أو -كأضعف الإيمان- لمجرد الضغط في هذا الاتجاه؟ هل قامت دولة عربية واحدة ولو باستدعاء السفير الروسي مثلاً، حتى لا نقول بطرده؟
في الواقع، نفضل بدل ذلك أن نشكل حكومات كي نجلس على نفس الطاولة -في مجلس الوزراء اللبناني مثلاً- ونتقاسم السلطة والحصص مع من يشاركون مباشرة في ارتكاب المجازر في حلب وينتشون بدماء أهلها، وبعد ذلك نحاول التغطية على سقطاتنا الأخلاقية بنفاق بيانات الإدانة وذرائع الواقعية السياسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
أما الأهم من كل ذلك، فماذا فعلت شعوبنا العربية؟ أين هي عملياً مما يحصل في حلب؟ أين التحركات السلمية للضغط على حكوماتنا وعلى الرأي العام العالمي؟ أين المليونيات الداعمة لأهل حلب؟ أين غيرتنا على أعراضنا في هذه المدينة؟ أين مروءتنا وأين شهامتنا التي نتفاخر بها بعجرفة على مدار السنة؟
أيعقل أنه لم تشهد عاصمة عربية واحدة مظاهرة جدية تذكر، في حين أن المظاهرات عمت عواصم أوروبية كثيرة منذ اليوم الثاني للمجزرة؟ فها هي باريس تشهد على تجمع المئات من كل الأعمار والطبقات الاجتماعية في ساحة إيغور سترافينسكي مساء الأربعاء في 14 ديسمبر/كانون الأول، وذلك رغم قسوة الصقيع، للهتاف بملء حناجرهم تضامناً مع الضحايا في حلب، ماذا ننتظر للقيام بنفس الشيء في مدننا العربية؟ الإذن من حكوماتنا؟ إذا لم تحركنا هذه الفظاعات، فماذا يحركنا؟
واستطراداً، كيف لنا بعد اليوم أن نلوم الشعوب الغربية على حصر إدانتها بالإرهاب الذي تتعرض له هي، وعدم تضامنها معنا عندما يضرب هذا الإرهاب مدننا، في حين أننا لا نتضامن مع أنفسنا في مجازر كالتي تحصل حالياً في حلب؟
فعلى أثر إحراق المسجد القبلي في المسجد الأقصى في 21 أغسطس/آب 1969، قالت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير إنها لم تنم ليلتها؛ لأنها ظنت أن العرب سوف يتوافدون من كل حدب وصوب، ولكن مع طلوع الصباح أدركت أن إسرائيل ممكن أن تقوم بما تشاء؛ لأنها تواجه أمة نائمة.
نحن نبرع في التغني بأمجاد ماضٍ سحيق وببطولات عمر وعبيد الله وعمرو وخالد وطارق، ولكن يبدو أن لا شيء قد تغير منذ تلك الحادثة الآنفة الذكر، فلو كانت غولدا مائير حية اليوم، لكانت على الأرجح قد قامت بترداد مقولتها بعد مشاهدة غياب ردة فعلنا الجدية على مجازر حلب.
نحن لا نفلح إلا في تقريع الآخرين على تخليهم عن مسؤولياتهم -لا سيما الإنسانية منها- في حين أننا نغرق في أنانياتنا وفردياتنا وسخافة حياتنا اليومية وخلافاتنا السياسية ونفاقنا، متخلين أيضاً عن إنسانيتنا، غير آبهين فعلياً بما يحدث لإخواننا.
لا بل أكثر من ذلك، فنحن لا نتوانى عن توظيف دماء أشقائنا السوريين في جدالاتنا البيزنطية العقيمة واللامتناهية، ناهيك عن استعمالها كمطية للتمريك وتصفية حسابات خلافاتنا، وذريعة لتقاذف الاتهامات بين دولنا وشعوبنا العربية وأحزابنا وتياراتنا وفصائلنا وقوانا السياسية في الداخل، لا سيما بين إسلاميين وعلمانيين.
ألم نتعلم من دروس الماضي؟ ألم نعتبر من ضياع فلسطين بسبب تقاعس شعوبنا وخلافات أنظمتنا ومصالحها الضيقة؟ (يمكن مراجعة كتاب المؤرخ وليد الخالدي، Nakba 1947- 1948).
بعيداً عن الديماغوجية، نسأل: إلى متى هذا الخنوع؟ إلى متى هذا الصمت الذي لا يشبه إلا صمت القبور؟ إلى متى هذا الخوف؟ إلى متى الاكتفاء بالتحسر والبكاء على أطلال مدن تسقط وتتهاوى الواحدة تلو الأخرى في الإقليم؟ إلى متى نغط في هذا السبات العميق؟
كل تحرك سلمي يمكن أن يكون مفيداً -ولو نسبياً- لدعم إخواننا في سوريا والتأثير على مجرى الأمور لصالحهم.
قد بلغ السيل الزبى، والخناجر على رقابنا، فماذا ننتظر كي نهب ونتحرك؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.