المفاهيم عن الأشياء والأشخاص والأفكار هي جزء من القاعدة المعرفية التي يستند إليها العقل في عملية تفكيره ونتائجه وقراراته، وتلك المفاهيم تؤثر بشكل مباشر على الطريقة التي يختار بها الشخصُ أسلوب حياته. وباختلاف المفاهيم من شخص لآخر، تختلف طبيعة ونمط حياة الأشخاص عن بعضهم، وبقدر ما كانت المفاهيم صحيحة ودقيقة وموضوعية ومناسِبة للواقع بقدر ما كانت حياة صاحبها أكثر تعقيداً من أصحاب المفاهيم البسيطة والبدائية.
إن كلمة "مفهوم" تعني المعنى المُدرَك للفكرة في الذهن، أي حين تسمع كلمة ما (س) فإن صورة المعنى المرافِق لها في ذهنك سيستحضرها العقل، وتلك الصورة هي مفهومها لديك. لذلك، تختلف المفاهيم من شخص لآخر، ربما بسبب التجارب المختلفة أو القراءات المتنوعة أو غير ذلك.
حين نقول كلمة "القوة"، بعض الأشخاص ربما قد يستحضرون المعنى الفيزيائي للكلمة على أنها كمية حقيقية تستطيع التأثير على الجسم لتغيّر من شكله أو حالته أو اتجاهه، أو قد يترافق مفهوم القوة لدى البعض بالمعرفة، كما يرى فرانسيس بيكون "المعرفة قوة"، وربما يميل البعض إلى أن القوة درجة مرتفعة من الإيمان أو الصبر، وقد يرى آخرون أنها السلطة أو المال، هذا ما أقصده أن مفاهيمنا مختلفة للكلمة نفسها أو الفكرة أحياناً، ثم إننا عندما ننسب كلمة إلى كلمة، أي معنى إلى معنى، ومن ثم مفهوماً إلى مفهوم، تزداد دقة المقصود من كلامنا؛ فإن قلنا "منضدة" ثم ردفناها بكلمة أخرى "مستديرة"، أصبح لدينا معنى أكثر دقة "منضدة مستديرة".
ما أريد أن أضيفه الآن إلى كلمة القوة، هو "إرادة" التي تعني التصميم الواعي لأداء فعل معين، لنحصل على "إرادة القوة" التي تستطيع أن تصنع وتغيّر وتضرب أحياناً بعنف كل عقبة تعيق تقدمها بشكل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي لتحقق غايتها، وأقارنها مع كلمة أخرى -سأنسبها إلى القوة- هي "الحق"؛ أي "قوة الحق"، ونفكر ببطء في الواقع والتاريخ والجغرافيا، بين "قوة الحق" و"إرادة القوة".
لقد تعلمنا، بأساليب نظرية، أن صاحب الحق قوي! وبعدها، تبين من خلال التجارب التي مررنا بها كأفراد وشعوب، والظروف التي تعيشها المنطقة، أن القوي هو فقط قوي بلا أي مصاحبة للحق أو للباطل، قوة مادية بحتة تستطيع أن "تفعل" ومهما كان الحق حقاً هو لا شيء من دون القوة، فالحق الذي لا تحميه قوة هو حق ضائع وحق مستباح. المنتصر في المعركة هو القوي والخاسر هو الضعيف، طبعاً ليس كل منتصر صاحب حق، وإنما انتصر بقوته فقط، وهذا ما يحدث فعلاً، إرادة القوة المادية في حاضرنا الآن هي القوة الفاعلة والقادرة على الفعل الحقيقي، أما غير ذلك فهو مجرد كلام نظري ليس له أساس في الواقع. فالقوة والضعف هما المفسران الأساسيان أو الخطان العريضان لجميع الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لاحِظ الفرق بين حق الشعوب في تقرير مصيرها، الذي يُقال بأنه محميٌّ في (شِرعة حقوق الإنسان)، والحق الذي تراه الدول في الدفاع عن مصالحها حتى لو أدى ذلك إلى انتهاك حقوق فرد أو مجموعة أفراد وقد يتعدى الأمر إلى سحق مجموعات إنسانية كاملة وتدمير بلدان بحد ذاتها أو هدْر موارد الكوكب والتأثير بشكل سلبي ومباشر على الطبيعة. طبعاً، لا مجال للمقارنة بين حقوق الشعوب ومصالح الدول، فالأولى تعبر عن قوة الحق والثانية عن إرادة القوة.
يقول برتراند راسل: "شاهدت يوماً ولداً يضرب آخر أصغر منه، وعندما جادلته قال: الأولاد الكبار يضربونني، لذلك أضرب من هم أصغر مني وهذا عادل.. بهذه الكلمات، لخص الولد كل تاريخ البشرية".
لذلك، لم يحدث أن كان الحق فقط وسيلة للتغيير نحو الأفضل، إنما الانطلاق يكون من تمجيد القوة التي ترافقه وأُلفة الشر وتفضيل المكر على الفضيلة، في ذلك بداية أي تغيير، فقط عندما نفهم أن الأمل بلا عمل شعور كاذب، والتسامح وسيلة الضعيف عندما لا يملك الخيار المقابل. منبع القوة يكون في شدة صلابة النفس، وجبروت الألم الذي لا يهزه الموت ولا العدم، حاصِر الواقع بوسائلك فمهمته تقتضي أن يردع وجودك في حلقاته. لذلك، امتهِن الارتجال الحاذق في كل حدث وتقدَّم بقلب من حديد؛ فالضعفاء رغم أخلاقهم لا يحق لهم الاختيار، أنا لا أُصنف الصح والخطأ هنا بقدر ما أوصّف الواقع الحقيقي الذي نلامسه ونعيشه يومياً.
الحقوق، على مدار التاريخ، لم تكن تُمنح؛ بل تُكتسب بالقوة، لذلك بقدر ما يملك أي كيان (فرد – مجتمع – دولة) من قوة في هذا العالم يملك من حقوق، إنها علاقة طردية، اسعَ للقوة التي تراها صالحةً لك لكي تنتزع حقك انتزاعاً حين يُسلب منك، بغض النظر اتفقت أو اختلفت معي على مفهوم القوة، ففي هذا الكوكب: مَن هم دون خط القوة هم دون خط البشر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.