س و ر ي ا.. ر و س ي ا: أبجدية طفلٍ حلبي

على الأرجح كانت سوريا بالنسبة لي ذلك المكان البعيد جداً، الشاسع للغاية، المتناهي إلى اللامحدود.. حينها كنت طفلاً.. عبارتي لم تكن معقولة بالنسبة لأمي وأصدقائي وأستاذي صاحب الشعر الأشعث في المدرسة.. لكنها الآن كذلك

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/17 الساعة 04:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/17 الساعة 04:29 بتوقيت غرينتش

إليك قلم رصاص، أعطِه لطفلٍ حلبي صغير.. وأمهله ٤ دقائق لكتابة اسم بلده على ورقة بيضاء.. اجمع له الحروف (س، و، ي، ر، ا) في السطر الأعلى، واطلب منه لفظها ثم توصيل حروفها مجدداً مع بعضها لاستصلاح كلمة مفيدة.. احتمال كبير أن يلفظ اسم بلده بالطريقة الصحيحة، فهو عادة يستمع إلى آخر الأخبار من لسان أبيه وأمه، بعد انقطاع شبكات الاتصال عن بلاده.. لكن كتابة اسم هذا البلد ستكون خاطئة بنسبة ٥٠٪ ربما.. وربما لا.. الطفل سيتردد قليلاً.. سيقول في نفسه.. "السين أولاً أم الراء.. إنها الراء.. على اسم المكان الذي سأذهب إليه يوماً من الأيام (روضة الأطفال)".. سيختار صديقنا الصغير اسم روسيا إذاً.. روسيا.. ذلك البلد الذي يبعد عن منزله المحطم مئات الآلاف من الكيلومترات، ويفصلها عنه دولة بأكملها ثم بحر أسود كلون السماء التي غطتها سحابات دخان القذائف والصواريخ منذ أمد.

الطفل الحلبي لا يعلم إن كان مخطئاً، ليس هو فحسب، بل نحن أيضاً لا نعلم، وأتحداك أن تجزم بالحقيقة في هذه اللحظة المزيفة.. صديقنا الصغير لا يميّز بين بلدين اثنين، بينهما آلاف الكيلومترات، ومساحة أحدهما لا تتجاوز ١٪ من مساحة الآخر.. نعم سوريا لا تتجاوز ١٪ من مساحة روسيا.. الدولة التي تعد الأكبر في العالم من حيث الاتساع!

ربما قد أخطأ هذا الطفل بالكتابة، وربما لا.. لذا لا تستعجل في وضع علامة الاختبار..

هذا الطفل قد يكون محقاً، ومقنعاً بالضرورة.. فكيف له أن يعلم، أهو في سوريا؟ أم في روسيا؟.. لقد استيقظ إلى الحياة قبل مدة قصيرة، وجد نفسه أمام قوة عظمى تأكل الأخضر واليابس، وتقتل الكبير والصغير، وتضع القوانين، وتقول لأبيه وأمه وأخيه وأخته وأصدقائه في المدرسة: "هذا هو رئيسكم، وهذه هي حدودكم، وهؤلاء هم حلفاؤكم، وهذا هو علمكم، وهذا هو نشيدكم الوطني، وتلك هي اللغة الرسمية التي ستتعلمونها..". هذا الطفل سيكون محقاً على الأرجح، فجهز قلمك الأحمر لوضع العلامة الكاملة، ضعها ولا تخش شيئاً.. وصدقني، ميثاق الأمم المتحدة في استقلال الدول وسيادتها حقه ليرة سورية واحدة، سيرميها هذا الطفل السوري في وجهك بالسرعة القصوى إذا ما أعطيته إياها كعربون محبة، فهي لن تشتري له أي شيء على الإطلاق (كل دولار يساوي ٥٥٠ ليرة سورية تقريباً).. هذا الطفل محق في كل ما يقول، سنكون أمام اختبار الزمن مرة أخرى.. ربما يكون عمر هذا الطفل أصلاً أصغر بكثير من عدد المرات التي استخدمت فيها روسيا حق الفيتو في مجلس الأمن ضد قرارات كانت ستحميه وعائلته من القصف الهمجي للنظام الذي يحكم بلاده منذ ١٦ عاماً (٦ فيتوات روسية).

لا عتب على الطفل، فهو صغير من ناحية، وحلبيٌّ من ناحيةٍ أخرى، فالأطفال عادةً ما يدركون الأشياء بطريقة لا يعلمون أنها خاطئة بحسب مداركنا نحن.. ولا ندري أمداركنا أصابت حظها أم أخطأت ذلك الحظ.

العتب ليس على أحد سوى على شخصٍ آخر، مشكلته الوحيدة أنه بمنصب رئيس جمهورية.. وحائز على شهادة دكتوراه في طب العيون، ذلك الرئيس الذي يعلم أن اسم بلاده هو سوريا وأن اسم روسيا ليس سوى زيف ملفق ابتلع أرضه وشعبه ومطاراته وموانئ سفنه.. لكنه يعلم جيداً أيضاً أن اسم سوريا زيف يملأ الأرجاء بدوره.. فما أهمية اسم دولة فقدت كامل سيادتها لصالح دولة أخرى أضافت إلى مساحتها الأصلية ١٪ مساحة زيادة؟.
العتب على الرئيس، الذي دمر تلكم المدرسة التي كان ينبغي لها أن تُدرس طفل حلب الصغير علمَ الجغرافيا بخرائط ملونة، وأن تضع أمامه حرف السين أولاً بدل الراء.. وأن تعلمه الكتابة والقراءة وحب الوطن، وسيادة الوطن، وحرية الوطن..
كنت صغيراً حينها، أهدد الأصدقاء بعبارة شهيرة لي: "بضربك كف يحطك بسوريا" (أصفعك صفعةً تحملك من قوتها إلى سوريا).. نعم، لم أكن أدرك آنذاك أنني أعيش في بلد يدعى سوريا..

على الأرجح كانت سوريا بالنسبة لي ذلك المكان البعيد جداً، الشاسع للغاية، المتناهي إلى اللامحدود.. حينها كنت طفلاً.. عبارتي لم تكن معقولة بالنسبة لأمي وأصدقائي وأستاذي صاحب الشعر الأشعث في المدرسة.. لكنها الآن كذلك
أنا بعيد للغاية.. بعيد جداً.. حالي هو حال أي طفل حلبي الآن أخرجته روسيا من أرضها الجديدة.. التي تقع في الجنوب وتشرف على البحر المتوسط الدافئ..

إننا قريبون الآن من روسيا الشمالية.. وبعيدون عن روسيا الجنوبية (سوريا).. فإن قلتها مرةً أخرى.. "بضربك كف يحطك بسوريا" فأنا صادق.. وصديقنا الحلبي الصغير صادق أيضاً فيما كتب.. بلادي عنوانها الحقيقي بعد اليوم
ر و س ي ا وليست س و ر ي ا..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد