إذا تلبست الإنسان فكرة، فإنه ينقاد إليها، أو يستسلم لما فيها، ويقع تحت سيطرتها إلى حد يفوق الوصف والتوقع، فإذا كانت الفكرة سلبية مدمرة وأُقحمت في إنسان ضعيف فالنتيجة الأكيدة دماره وانهياره، وإن كانت الفكرة إيجابية مُبادئة زاهرة متفائلة، واستمسك بها إنسان، فسيكسر ألف قيد وجدار، وسيصل إلى ما تلبّس فيه وسيطر عليه.
تلبس الشياطين للإنسان في حقيقته الفيزيائية أمر فيه خرافة عظيمة، ولكن تلبس الأفكار الشيطانية في الإنسان حقيقة قوية دامغة مثبتة متكررة، والشياطين الذين يُلبِّسون أغلبهم شياطين من الإنس.. إنهم شياطين منظمون موَجهون ينشطون كل حين غفلة وضعف، ويصطادون كلما تعكّرَ الماء وانتشر الضباب.. وهم ينشطون اليوم يستهدفون حلب ويستهدفون ثوار حلب، ويستهدفون الثورة السورية.
طريقتهم الشيطانية هي بالوسوسة عبر كل الوسائط والوسائل، وغايتهم أن يجعلوا الهزيمة أمراً واقعاً، ويجعلوا سقوط حلب بل الثورة كلها أمراً حتمياً، ويختفون إذ لا بد لهم أن يختفوا خلف منطق النقد والإصلاح وإيجاد موجة ثانية مثالية أو العودة إلى أسس الثورة وبداياتها الأصيلة، ويستخدمون في مادتهم مصطلحات التخوين والفساد والتبعية، ولا يوجهون أغلب تلك المصطلحات إلا إلى الداخل باتجاه الفصائل المقاتلة، ويتركون الذين تربعوا في الخارج أو يمرون عليهم مروراً سريعاً، أو يمرون إليهم طويلاً؛ لينسقوا معهم لصناعة جو عام من الهزيمة والاستسلام والرضوخ، جو لازم ضروري لفرض ما يُراد من تسويات تحت ظل بشار، ومن جلبهم بشار من محتلين ومرتزقة، تسويات تنتظر الثورة السورية أن تخمد.
بعضهم قال من خلف شاشته وغمامة لفائف تبغه، وقد لبس رداء المثقف السياسي الخبير: "يجب أن نفكر في مرحلة ما بعد الثورة، فالثورة انتهت"، وهو الذي لم يمشِ في الثورة شبراً واحداً على الأرض.
وأحد مشاهيرهم راح ينشر مقطعاً مسجلاً له في كل مكان؛ ليقول منذ أسابيع: "حلب انتهت، حلب سقطت".
ومنهم دي ميستورا، الذي يتمنى أن تنتهي معركة حلب قبل نهاية العام الحالي.
وهناك من نشط كالبركان، وقد كان خامداً ينتظر، وفي باطنه تغيُّظ وزفير، وعندما احمّر الحدق في حلب انفجر وفار وألقى بحمم لاهبة، وراح يشتم ويعمم عن فساد كل القادة في الداخل، وفي كل المستويات، وراح يقول بانتظام: "باع، باع، باعوا، باعوا" في كل الصفحات والغرف والبيوت والمواقع الحقيقية والإلكترونية والافتراضية.
وهناك سمّاعون للشياطين، ويتلقون الاتهامات بأفواههم وليس بعقولهم، فيكررون التهم دون توثق وتبيّن، ويحللون الدوافع تحليلاً سيئاً، ويُبهجون الأعداء والشياطين.
وكل الشياطين والسماعين لهم والمتلقين للسوء بالأفواه يؤدون ويستخدمون ويريدون أن يتلبس الناسَ مشهد واحد ألا وهو حلب سقطت، الثورة انتهت.
اليوم في حلب يشتغل الشياطين على ذلك بشكل مسعور، لقد استخدم الروس كل أنواع الأسلحة القاتلة والمحرمة وبكميات هائلة، ولم يتركوا شيئاً لم يجربوه، وأرفقوا استخدامهم باستعراضات ودعايات في البر والبحر والجو؛ ليثيروا الرهبة والخوف في قلوب الثوار، ومع كل ذلك لم يفعل السلاح ورهبته الفعل المطلوب، فكان لا بد من وسوسة الشياطين، وكان لا بد من التلبس.. تلبس فكرة الهزيمة والاستسلام.
وكل الذين يقعون في حبائل هؤلاء وتتلبسهم الهزيمة لا يجمعهم إلا الضعف الشديد في الشخصية والإرادة والإيمان.
مَن تتلبسه أفكار الانكسار والموت ينكسر ويموت فعلاً، وقد جربوا على محكوم بالإعدام تجربة أوهموه فيها أنه سينزف حتى الموت، ومات فعلاً دون أن ينزف قطرة واحدة وبنفس توقيت مَن ينزف فعلاً.
والذين توهموا في الأسر لفترات طويلة أن رفاقهم تخلوا عنهم وباعوهم ماتوا همّاً وقهراً بغير تعذيب مباشر أو إيذاء، والذين قالوا إن فيها قوماً أقوياء جبارين لا نستطيع مجابهتهم أصابهم شلل الخوف والعجز والهزيمة، والذين خرجوا من ديارهم وقد تلبسهم الرعب من القتل رغم أنهم ألوف، قال الله لهم موتوا ثم أحياهم لمّا تلبستهم بعد حين فكرة الحياة والنصر.
وفي جيوش العالم المتطورة يحرص القادة قبل أي معركة على أن يقول الجنود قولاً واحداً مفاده: "سنفوز وسنسحق العدو حتماً"، وأي جندي يقول إن العدو قوي وحشوده هائلة ولن نستطيع ولن نتمكن، فإنهم يقتلعونه من الصفوف ويعيدونه إلى بيته مهاناً معاقباً مع لقب لصيق "الدجاجة الجبانة".
أما في الإسلام فهناك مناهج هائلة تدفع أصحابها إذا طبقوها واستحضروها إلى حالة أمل جازم، حالة تقلب الموازين وتركل كل الحسابات والتنبؤات، ويكفي من هذه المناهج نهج البسملة، فإذا علم من يقاتل اليوم في حلب أنه إذا سمّى باسم الله فقد أعلن أنه ينوب عن الله في دفع الطاغوت والمجرمين الحاقدين، فالأثر سيختلف، والكل يعلم أن الله لن يعجزه دفع المجرمين وإبادتهم، غير أنها سُنته الماضية أن ينوب العبد عن الله في الأرض، وأن يخلفه فيها هنا لدفع الظالمين.
ولكم أن تقدِّروا ما معنويات من يسمّون باسم الله، وهم مؤمنون أنهم بذلك ينوبون عن الجليل ذي المقام المهيب، وأنهم سيتحضرون ليقدموا ما يليق ليس بهم وإنما بما يليق بمن ينوبون عنه، ولكم أن تخمِّنوا كيف هو مقام من ينوبون عنه في قلوبهم.. فإذا كانوا يقدرون الله حق قدره ونابوا عنه ثم استحضروه وهم يتلقون الأمر منه: "قاتِلوهم يُعذبهم اللهُ بأيديكم ويُخزِهم ويَنصركم عليهم ويشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين"، فلن تجد فيهم إلا مبتهجاً بقبول جنديّته ونيابته، وسيقاتلون حتى النصر؛ لأنهم سيقاتلون وهم على يقين بالنصر.
إنه يقين بالنصر وليس تلبساً بالهزيمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.