يضيق الأمل أكثر فأكثر أمام المصري سيد عبد اللطيف الذي قضى أكثر من 4 سنوات داخل حجز المهاجرين بأستراليا بناء على محاكمة فاسدة تعرض لها في بلاده وانتزاع اعترافات منه تحت وطأة التعذيب.
عندما استطاع التلويح لعائلته عبر حاجز سلكيّ، أخبره الحراس -دون تفسير- بأن تصرُّفه هذا يمثل خطراً أمنياً، وأنه ممنوع.
والآن، الوقت الوحيد الذي يتاح له قضاؤه مع زوجته وأطفاله الستة بحسب تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية هو في ساعات مزدحمة في منطقة الزوار الممتلئة والصاخبة بمركز احتجاز فيلاوود في مدينة سيدني، الغرفة ذاتها كهف بلا خصوصية يتلكأ فيه حراس يرتدون سترات صدر سوداء وكاميرات مثبّتة بأجسامهم ومزوّدة بأجهزة تسجيل صوتي، حتى يمكنهم التنصّت إلكترونيًا على المحادثات المتبادلة.
يجب على أطفاله ارتداء أساور يد ذات ألوان فاقعة حتى يستطيعوا رؤيته. تعني الأساور أن بإمكانهم مغادرة المكان. لا يرتدي هو شيئًا بمعصمه.
داخل الحجز
شهد عبد اللطيف مرور المئات من طالبي اللجوء بمركز الاحتجاز وخروجهم منه: يُعطى بعضهم تأشيرات دخول مؤقتة، أو تأشيرات حماية، أو يرحلّون خارج البلاد. رأى أشخاصًا يضرمون النار بأنفسهم أثناء الاحتجاز، أو يشنقون أنفسهم أو يطعنون أحدهم الآخر.
تقتحم الكلاب المجهزة البوليسية غرفهم دون إنذار للبحث عن مخدرات.
لا يعدّ عبد اللطيف الأيام -1643 يومًا- التي قضاها في حجز المهاجرين. لكنه يعلم بصورة عامة أنها بلغت أربعة أعوام ونصف العام، ويعلم أنه لم يقترب من إيجاد حل لقضيته أكثر من يوم وصوله إلى أستراليا.
خلال هذه الأعوام، رأى أربعة رؤساء وزراء يأتون ويرحلون. يتابع السياسة باهتمام ويمزح بسوداوية أنه قد يحضر تولي عدة رؤساء وزارة لمنصبهم في محبسه، لم يُتهم عبد اللطيف أو يُدان رسميًا بجريمة في أستراليا حتى الآن.
استنكر مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان احتجاز عبد اللطيف ووصفه بغير القانوني، و"حرمان واضح و غير متكافئ لشخص من حريته" يجب على إثره إطلاق سراحه وتعويضه، كما شجبت المفوّضية الأسترالية لحقوق الإنسان كون الاحتجاز "تعسّفي.. وغير مبرر"، وانتقد المفتش العام للاستخبارات والأمن في الحكومة الأسترالية "غياب التنسيق.. والإلحاح" عن قضية عبد اللطيف.
وقيّمت وزارة الهجرة وحماية الحدود الأسترالية أن حالة عبد اللطيف وعائلته تحمل أحقّية أولية لقضية طلب حماية على أساس "خوف مبرر من الاضطهاد" في موطنهم.
ولأربع مرات، أوصت الوزارة رؤساء الوزراء المتتابعين بالسماح لعبد اللطيف بتقديم طلب للحصول على تأشيرة حماية. لكن يبقى عبد اللطيف محتجزاً.
اعترف تحت التعذيب
والآن، ظهرت وثائق جديدة بموجب قانون حرية المعلومات، تكشف تلك الوثائق أن الحكومة الأسترالية علمت لمدة تقارب الـ18 شهرًا أن الأدلة المستخدمة لإدانة عبد اللطيف غيابيًا في محاكمة جماعية في مصر عام 1999 –وهي أساس احتجازه الحالي في أستراليا- تم الحصول عليها "تحت تعذيب شديد" وثَبُت عدم مصداقيتها.
وفي تقرير موجز وقّعه وزير الهجرة، بيتر داتون، في أبريل/نيسان عام 2015، وبعد شهرين من نشر قصة عبد اللطيف في صحيفة الغارديان، يذكر التقرير أن الوزارة حصلت على وثائق "تثير شكوكًا بشأن شرعية المحاكمة".
"تشير ترجمات لوثائق المحكمة العسكرية العليا وشهادات موقّع عليها من قبل شهود أن الدليل المستخدم ضد السيد عبد اللطيف تم الحصول عليه تحت التعذيب".
لكن يبدو في نفس الوثيقة أن وزارة الهجرة سعت لطمأنة وزير الهجرة أن استمرار احتجاز عبد اللطيف بلا تهمة أو محاكمة ما زال ممكنًا، بصرف النظر عن شرعية طلبه للحماية.
وأوصى مسؤولون في الوزارة بالسماح لعبد اللطيف بالتقدّم بطلب تأشيرة، حتى يتم رفضها واستخدام الرفض لإجباره على مغادرة أستراليا.
"إذا سُمَح للسيد عبد اللطيف بتقديم طلب قانوني للحصول على تأشيرة حماية مؤقتة، سيتم رفض الطلب على أساس البند 36(1ب) من قانون الهجرة (الذي يرفض منح تأشيرة لأي فرد ترى منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية Asio أنه يشكّل خطرًا على أمن البلاد)".
لا يمكن قانونياً ترحيل طالب لجوء من أستراليا قبل تقييم مصداقية طلبه للحماية. وبالتالي، كما نصح البيروقراطيون وزير الهجرة في التقرير الموجز، فإن السماح لعبد اللطيف بتقديم طلب تأشيرة فقط لغرض رفضها، "سيمنح أساسًا قويًا لإزالته عن الأراضي الأسترالية كما يتفادى خطر رفع دعوى قضائية، وعليه فهي الطريقة المقترحة لتقييم طلب السيد عبد اللطيف".
يبحث التقرير الموجز احتمال التواصل مع مصر -وهي موطن عبد اللطيف الوحيد الذي يمكنه دخوله لكنها أيضاً الدولة التي يسعى للحصول على الحماية من تعرضّه للاضطهاد فيها- حتى تطلب مصر تسليمه إليها كمجرم.
ولم تبذل مصر أية جهود تجاه استرداد مواطنها ويشير التقرير أنه "لا يمكن التأكد من وجود ضمانات دبلوماسية كافية.. حتى يتم بحث مخاوف السيد عبد اللطيف الأمنية ومزاعمه المحددة التي تتضمن خطر تعرضه للأذى في حال عودته إلى مصر".
وفي التاسع عشر من مايو/أيار عام 2015، أعطى وزير الهجرة الأسترالي لعائلة عبد اللطيف الإذن بتقديم طلب الحصول على تأشيرات حماية مؤقتة في أستراليا.
أُخضِع عبد اللطيف لاثنتين وعشرين ساعة من المقابلات على مدار أربعة أيام، أجراها مسؤولو الوزارة في فبراير ومارس عام 2016، لكن الآن وبعد عام تقريبًا لم يقترب من معرفة نتيجة طلبه.
لا تتوفر لعبد اللطيف مصادر للاستئناف خلال احتجازه وبينما تظل قضيته بين يدي الوزارة. لم يحدث أي تقدّم بالكاد، بخلاف تلال متزايدة من الأوراق الرسمية التي لا تفعل شيئًا سوى تأكيد أزمته الكابوسية.
وقال متحدث باسم منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية Asio -وهي الوكالة التي منحت عبد اللطيف "تقييمًا أمنيًا سلبيًا" يستند إلى محاكمته الفاسدة في مصر- لصحيفة الغارديان: "وفقًا للتقاليد المتّبعة، لا تعلّق منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية على قضايا الأفراد".
وقالت متحدثة باسم وزارة الهجرة إن "الوزارة لا تعلّق على الحالات الفردية".
المنفى والاحتجاز
هرب عبد اللطيف من مصر في عام 1992، بعد أن تعرّض للتعذيب تحت نظام حسني مبارك. وفي تلك السنة، اعتقلت قوات أمن الدولة المصري عبد اللطيف من مسجد كجزء من حملتها لقمع المعارضة السياسية الإسلامية ضد حكم مبارك. منذ هروبه، ظل عبد اللطيف في منفى بعيد عن وطنه، وعاش كلاجئ في ألبانيا، والمملكة المتحدة، وإيران، وماليزيا، وإندونيسيا، و-أخيرًا- أستراليا. ووُلد أطفاله الستة خلال ذلك الوقت المتصّل في المنفى.
وصل عبد اللطيف وعائلته إلى أستراليا بحرًا في مايو/أيار عام 2012. قيّمت الحكومة الأسترالية طلبه للحصول على الحماية وقررت أنه وعائلته يملكون أحقية أولية بالحصول على صفة لاجئين.
لكن بينما كانت العائلة في مركز احتجاز اللاجئين عام 2013، أُخبرت السلطات الأسترالية بوضع إنذار أحمر من قِبل الإنتربول (منظمة الشرطة الجنائية الدولية) يفيد (خطأً) بالحكم على عبد اللطيف غيابيًا عام 1999 -في محاكمة جماعية في القاهرة لمائة وسبعة أشخاص- بتهمة القتل العمد مع سابق الإصرار، وحيازة أسلحة نارية ومتفجرات.
حكمت المحكمة العسكرية المصرية عليه بقضاء خمسة عشر عامًا في السجن، بتهمة "الانتماء لجماعة إرهابية" و"تقديم وثائق سفر مزورة"، واستند الحُكم إلى أدلة انتُزعت تحت التعذيب، الذي تضمّن التعرّض لصدمات كهربية.
اتّضح لاحقًا أن المحاكمة، التي انتقدتها المنظمات الحقوقية آنذاك، كانت ملفقة. وكشف تحقيق استمر لثلاث سنوات أجرته صحيفة الغارديان الكثير من الفساد في القضية المتهم بها عبد اللطيف وفي تعامل السلطات الأسترالية معها.
لكن قضية عبد اللطيف امتدت لأبعد من المكائد القانونية الغامضة، فكان من الحظ السيء أن يثير عاصفة سياسية عام 2013 في أوج المناظرة الانتخابية حول القادمين بحرًا إلى أستراليا. وقال زعيم المعارضة آنذاك والذي أصبح رئيسًا للوزراء لاحقًا توني آبوت، إن عبد اللطيف "جهادي مُدان" و"إرهابي متروك بلا حماية"، في إشارة لانخفاض إجراءات الأمن في مركز الاحتجاز بمنطقة إنفرباكي جنوب أستراليا. وقال جورج برانديس، وهو المدعي العام الحالي وكان مراقب المدعي العام عام آنذاك، إنه "ببساطة إرهابي مُدان".
نُقِل عبد اللطيف إلى فيلاوود حيث بقي حتى الآن. ولم يُحرز أي تقدم في قضيته ولم تتطرق الوزارة أبدًا إلى قضية الفساد النظامي المحيطة باحتجازه.
منفصلون
في حجرة ضيقة بمنطقة زوار مركز الاحتجاز، تحدث ابنتا عبد اللطيف الكبيرتان ضجيجًا من حوله، توزّعان الكعك والمعمول -حلوى شرق أوسطية مخبوزة ومحشوّة بالتمر- بينما يرشف هو بلا اهتمام شايًا خفيفًا بالحليب من كوب بلاستيكي.
يشبهه ابنه الأكبر، الذي أصبح في الثالثة عشر من عمره، إلى حد لافت للنظر. كان طفلًا عندما وصلت العائلة إلى أستراليا، أصبح شابًا الآن، تنمو بداية لحية على ذقنه وله عينان هادئتان ومتمردتان. أخوه الأصغر، في السادسة، يتذكر بالكاد كيف كانت الحياة مع والده بجانبه.
يقول عبد اللطيف إن الأطفال "في حالة جيدة جدًا، أنا فخور بهم"، يتحدث عن حياتهم في الخارج. لكنهم أيضًا يحملون عبء احتجاز والدهم. تقدّم عبد اللطيف بطلبات لحضور جميع حفلات التخرج، وليالي إلقاء الخطابات، رُفضت جميعها.
خلقت الحياة في المنفى -لم يعرف جميع أطفاله حياةً غير النزوح الدائم- رباطًا وثيقًا بين أفراد عائلة عبد اللطيف: خلال احتجازه في أستراليا، أصرّوا بثبات ألا يتم الفصل بينهم. لكن خفّة اليد البيروقراطية بدلّت وضع العائلة مرة أخرى كالسحر.
وفي وقت سابق من العام الجاري، أعيد تعريف مجمع العائلات بمركز احتجاز فيلاوود -الذي توجد به زوجة عبد اللطيف وأطفاله الستة- بين ليلة وضحاها ليصبح "مسكن الاحتجاز المجتمعي".
حرية ظاهرية
وبينما تم تعطيل الكاميرات التي كانت تراقبهم، ونُزعت الأقفال عن البوابات، ظلت عائلة عبد اللطيف في نفس المنزل لكن سمح التغيير في نظام الاحتجاز لوزير الهجرة بالإعلان أنه لا يوجد أطفال تحت الاحتجاز بمراكز الهجرة في أستراليا.
وكان لمنح حرية ظاهرية لعائلة عبد اللطيف أثر معاكس بإبعاده عنهم أكثر. فأُغلق الطريق الداخلي الذي يربط العائلة بالمجمع مشدد الحراسة الذي يوجد به عبد اللطيف ويستغرق قطعه 10 دقائق، وأصبح على العائلة سلك طريقهم وسط شوارع ضاحية فيلاوود سيرًا على الأقدام لزيارة الزوج والوالد المحتجز، الذي أصبح على بعد بضع مئات من الأمتار لكن يستغرق المشي إليه ساعةً كاملة.
وحتى في لحظات لمّ الشمل الوجيزة التي تحظى بها، دائمًا ما يخيّم التعب على عائلة عبد اللطيف، أو شعور بالهزيمة أنهم لا يمكنهم نسيان جدران السجن المحيطة بهم، حتى وهم يحاولون الاستمتاع بالساعات القليلة التي يحظون بها كعائلة.
قضى عبد اللطيف حياته في لا-يقين، تحت رحمة نزوات البيروقراطية التي لا يمكن توقّعها أو التشكيك فيها. ومع ذلك، وبعد أربعة أعوام ونصف، ما زال يحدوه الأمل.
يقول: "لم آت لأستراليا لدخول حرب مع السلطات الأسترالية بل بحثًا عن الحماية. أنا صديق ولست حيوانًا".
الطبيعة غير المحددة لاحتجازه ترهق عبد اللطيف، يشرح كيف تسحق روحه وتدفعه إلى نوبات من الاكتئاب عليه أن يقاوم ليُخرج نفسه منها. أوصى كل من معالجيّ عبد اللطيف النفسيين الحكومة الأسترالية بإعادته للسكن مع عائلته في المساكن الاجتماعية الخاصة بمركز الاحتجاز "نظرًا للأثر البالغ الذي يحمله انفصاله عن عائلته في بيئة احتجاز على صحته العقلية".
ويقول عبد اللطيف عن احتجازه: "تضيع حياتي في هذا المكان. إذا حُكم عليّ، إذا ارتكبت خطأً، سأدفع الثمن. لكني لم أفعل شيئًا خاطئًا، ولا أخفي شيئًا".
"في السجن يُمنح الناس فترة زمنية، يعرفون كم عليهم الانتظار.. لكن هذا النظام يقتل الأمل بداخلي".
يقضي عبد اللطيف معظم الأيام وحده في زنزانة ضيقة بلا تهوية، بها مرحاض، وسرير صغير، وخزانة ذات أدراج. ومن الزنزانة، إذا وقف على كرسي، يمكنه رؤية العالم في الخارج من خلال نافذة مرتفعة ومغلقة. لكن نافذة مركز الاحتجاز لا تطل سوى على خزان المياه الخاص بالمركز والسياج الحديدي الذي يمنع عبد اللطيف من الخروج.
يتحدث عبد اللطيف بترددٍ هذه الأيام. لغته الإنكليزية، التي كانت قوية يومًا ما، تصبح أسوأ مع انعزاله.
والآن، يمكن بالكاد سماع صوته وسط ضجيج غرفة الزوار. ينحني قليلًا حتى يتحدث، ينظر أولًا وراء كتفه ليرى من -الحراس مرتدي الكاميرات قد يظهرون في أي وقت- قد يستمع إليه.
يقول عبد اللطيف، هنا نحن في لامكان، ولا توجد قواعد.
"نحن خارج أستراليا. نحن خارج العالم."
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.