هذا البلد لنا.. هذا البلد لهم
هذا البلد لنا.. هذا البلد لهم
لنا.. هذا البلد لهم.. هذا البلد لهم.
أحاول أن أخرِس الصوت داخل جمجمتي دون جدوى، أتذكّر كلمات الشابّ الذي كان يحدّثنا عن سبل الوصول لإتمام الدكتوراه في "بلد متقدّم"، وأكاد أختنق ممّا كان يذكره.
أنا المهندسة التي تسعى لأن تتمّ مرحلة الدكتوراه، وتسعى لأن تتحصّل على تأطير محترم و"علم محترم"، أدخل صدفةً إحدى قاعات جامعتي لأجد ثلّة من الطلبة يتحدّثون عن الأمر في إطار اجتماع لأحد النوادي الحديثة، غربي الأصل والنشأة.
لم يكن الخطاب يشبه في شيء الحديث عن العلم والتعليم، ذكر الشابّ الغريب عن الجامعة، الذي فهمت أنّه رئيس هذا النادي والممثّل الشرعي له، أنّه علينا، كأعضاء جدد ومؤسسين للنادي -إن وافقنا- أن نقوم بأشياء كثيرة لنضمن القبول الأوتوماتيكي في إحدى الجامعات الغربيّة، وأنّ أهمّ هذه الأشياء:
أن نقوم بزيارات مكثّفة للمؤسّسات السياديّة الحكوميّة لنعرّف بأنفسنا، ونعلن ولاءنا ودعمنا لها، وأنّه علينا في نفس السياق زيارة عدد من أصحاب رؤوس الأموال النافذين (الذين لهم علاقة مباشرة بالسلطة)؛ لأنه السبيل الوحيد لنكون محترمين هنا وهناك.
أظنّ أنّ الابتسامة التي ارتسمت على صفحة وجهي (وجهي الذي دائماً ما يفضح ما أفكّر فيه) هي ما جعلت الشابّ الأنيق ينظر إليَّ مضيفاً، أعلم أنّ لكلّ منّا توجّهاته وخلفيّاته الفكرية والسياسيّة، لكن "هكّا الأمور تمشي" (أي هكذا تسير الأمور)، فلنحاول أن نترك خلفيّاتنا جانباً.
"هكذا تسير الأمور"، ليس هنا فقط، بل في العالم أجمع.
من يملك المال يملك الشرعيّة، والنفوذ والحقّ دائماً.. ومن لا يملكه لا يملك شيئاً على الإطلاق.
هي الحياة هكذا، والحياةُ لا قيمة لها بعيداً عن المال، والمال هو المقياس والبوصلة التي تعطي للأشياء معنى، كلّ هذه الأفكار وأخواتُها تجتمع كلّ الأطراف لتجعلنا نصدّقها: الإعلام، السياسيّون، المفكّرون الجدد، المناهج التعليمية، المسلسلات والأعمال الثقافيّة الرخيصة.
ونحن نقاوم دون قصد، كيف لنا أن نصدّق أنّنا كطلبة علمٍ، علينا أن نبيع ذِممَنا في سوق النخاسة؛ لنحصل على علم محترم حتّى من الدولة نفسِها التي ننتمي إليها، وأنّها بِصفتها دولتَنا وسلطةً الأصلُ أنّها تنتمي إلينا، لن تستثمر في طلبةٍ لا يوافقُون سياسَاتِها، وإن كانوا أهلاً لذلك.
وما شأننا نحن الطلبة بأصحاب رؤوس الأموال الموالين للسلطة؟ كيف استطاع المال ونفوذه أن يبتلع كلّ شيء إلى هذه الدرجة المخيفة؟
كيف نستوعبُ أنّنا ومبادئنا ومستقبلنا مجرّدُ أرقام قد تُباع وتُشترى.. ارتفع السعر أو انخفض؟
يزداد الصوت علوّاً داخل جمجمتي: هذا البد لهم.. هذا البلد لهم.
سيبقى صاحب رأس المال الفاسد مجرماً وسارقاً، إلى أن يجد الثمن المناسب لعدد من الإعلاميين الذين سيخرجون علينا ليحدّثونا عن أهمية فساده في خدمة هذا البلد.
وسيبقى تدخّل الأجنبي في شؤوننا خيانة واستعماراً، إلى أن تقوم بذات الفعل، دولةٌ غنيّة، ولكنّنا دول غنيّة بالموارد الطبيعيّة والموارد البشرية.
هذا صحيح، ولكنّ بعض الدول المتقدّمة غنيّةٌ ليس إلى درجة أنّها تمتلك غِنًى طبيعيّاً يفوقنا، نحن الدول "التابعة"، ولكنها غنيّةٌ إلى درجةِ تسمح لها أن تعرف جيّداً قيمة المبلغ الذي يسدّ جوع حاكمنا ويرضيه ليبيعنا شعباً وأرضاً وديناً، وحينها فقط، يصبح إيجاد قاعدة أميركيّة في تونس وفي غيرها من الدول تقدّماً وانفتاحاً.. وليس استعماراً، وحينها فقط يصبح التفويت في ثروات البلاد للمستثمرين الأجانب خدمة للاقتصاد الداخلي، وليس خيانة للمستثمرين المحلّيين وللبلد وأهله.
بالمال تصبح الراقصة مثقّفة ورائدة فكر، وبالمال، تصبح بعض الدول المجرمة صانعةً للتغيير ورائدة لحقوق الإنسان.
وبالمال ذاته سيعاملك مديرك في العمل كعبد له، لا يذكُر أن يبتسم في وجهك إلّا حين يتذكّر أنّه قد درس في إحدى الدورات أنّ ابتسامة مدير في وجه موظّفه ترفع من مردوديّته في العمل فتدرّ عليه أموالاً أكثر.
كم يبدو هذا العالم ملكاً لهم وكم نبدو هامشاً معزولاً عن معترك الحياة، ولكن مَن نحن ومَن هم؟ هل حقّاً ينقسم العالم إلى مترفين و"زواولة"؟ وهل حقّاً علينا أن نعادي كلّ من استطاع أن يمتلك نصيباً من المال يستعبدُنا من خلاله؟ أم علينا أن نعادي ذلك الذي أعطى للمترف الحقّ في استعباد الناس مقابل المال؟
يبدو المال منذ ظهوره وعلى اختلاف أشكاله عامل قوّةٍ دائماً، ولكنّه لم يكتسب، وهذا النفوذ الرهيب منذ قرون عدّة والمال كالجمال، كالنسب، كالعلم، كالعلاقات، كالأخلاق عاملُ قوّة يسعى الإنسان لاكتسابه وحيازته لزيادة قوّته، ولكنّه أبداً لم يكن بالقوّة التي تجعله مؤهلاً ليرسم غاية البشرية وإبعاد الإنسان وأحلامه ووجوده عوضاً عن مفهومي الحقّ والباطل.
كم استطاع المال اليوم أن يبتلع هذين المفهومين، وأن ينظّر لعالم لا صحيح فيه ولا خطأ غير ما يرسُمه المال وما يبيحه مِنْ قيمٍ.
هذا البلد حقّا لهم، ليس لأصحاب رؤوس الأموال والمترفين في الحقيقة، بل للذين آمنوا أنّ الإنسان هو المؤهّل لتحديد أبعاد الحقّ والباطل، وإذ إن هذا الإنسان قد صار قابلاً للبيع والشراء في زمن التفسّخ هذا، فإن الإنسان ذاته قد شرّع لفكرة أنّ المال هو السيّد وأعلنه إلهاً جديداً لهذا العالم محميّاً بقوّة القانون.
رغم أنّ هذا لإنسان نفسَهُ لم ينسَ أن يدّعي أنّه قد ضمن لنا كلّ الحقوق والحريات "المحايدة"، وأنّنا نحن من اخترنا أن نتخلّى عنها لصالح حفنة من الرأسماليين، وأنّه براء من المسؤوليّة، رغم أنّه هو من أوجد منظومة تشريعيّة لا تجعل لنا مفرّاً من الوقوع تحت استعباد صاحب رأس المال.
أي جنون هذا؟ وأية عبثية؟
أشعر بصداع بسيط يتوزّع في مقدّمتي رأسي، فأحاول أن أنهي هذا النقاش البَليد داخلي، أتذكر أنّ عليَّ الاتصال لسبب مهمّ بإعلاميةٍ صديقة.
الوقت يداهمني، أسحب هاتفي، أبحث عن رقمها فتعترضني أرقام الأصدقاء ورفاق الفكرة، أنكر طيف ابتسامةٍ يراودني، أحاول أن أنكر الواقع: انتماءَ صديقتي إلى فريق من المتطوّعات في أحد المواقع الإخبارية، وأنكر الجهد والتعب والمال الذي تبذله المتطوّعات لتطبيق ما زرعته فينا الأفكار الإسلاميّة من نصرةٍ للمظلومين وتبليغِ لصوت الضعفاء ومحاربةِ لسلطة المال واستعباده بإمكانيات متواضعة.
أعجَزُ.. أحاول أن أكون ماديّةً إلى درجة بعيدة، أحاول أن أقيس الأمور بميزان المال، وأحاولُ أن أمحو الجهد الذي يبذله المستضعفون في عالم رأس المال لإيجاد قيم الحقّ والعدل ولإثبات الباطل والظلم والفساد.. أحاولُ أن أقزّم أثر هذا الجهد وأعدادَ المقاومين.. لكنني ورغم ذلك أعجز.
وأعجز أيضاً عن إخراس الصوت الذي اكتسب بوجودهم شرعيّة أكبر داخلي: هذا البلد ليس لهم تماماً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.