عبد الرحمن وأحمد وكريم .. أصدقائي الثلاثة الذين أجبروني على التخلى عن رفاهيتي

لأجل عبد الرحمن الذي مات مغدوراً في عربة الترحيلات لن نسامح، كنت وعبد الرحمن ندرس في نفس الكلية، كان نبيهاً ذكياً، ولم يكن له في السياسة ولا الأحزاب، ولم يكن في الغالب يعبأ، كل ما أراد بعد تخرجه هو أن يبحث عن وظيفة بعيداً عن ضيق العيش الذي تئنُّ منه قريته الصغيرة

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/19 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/19 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش

أحسبني من ذوي الحظ ممن قضوا وقتاً ليس بالقصير من أعمارهم في البحث عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أكان ذلك قبل الثورة الوحيدة المجيدة في تاريخ مصر – يناير/كانون الثاني 2011 – أو بعدها معارضاً لحكم العسكر، لا أعلم إن كان ذلك مصدراً للخزي بعدما وصلنا إلى ما نحن فيه تحت حكم العسكر، خصوصاً أن منا من فقد عمره مغدوراً أو سجيناً، أو فَقَد وظيفته لكلمة حق، أو حتى فقد قربه من أهله للخوف من الفتك به، أم أنه مصدرٌ للفخر أننا حاولنا بقدرٍ ما أن نبذل أعمارنا ونضحي بسبل رفاهيتنا من أجل حرية وكرامة وعدالة اجتماعية.

مع هذا التذبذب القاتل بين شعور بالفخر والخزي، أجدني على يقين أننا يجب ألا نقف هنا، بل يجب للقافلة أن تُكْمل من أجلهم، من أجل أرواحٍ بذلت وشباب قمع، وأبناء يُتموا، وزوجات رُمَلن، وفقراء شُردوا، حتى وإن سامح كل مَنْ على الأرض، فلن يسامحنا من هم تحتها ولا مَنْ هم في فوقها إلى قبورهم ناظرون، لن يسامحنا عبد الرحمن الضبع، ولن يسامحنا أحمد حافظ، ولن يسامحنا كريم أبو زيد.

لأجل عبد الرحمن الذي مات مغدوراً في عربة الترحيلات لن نسامح، كنت وعبد الرحمن ندرس في نفس الكلية، كان نبيهاً ذكياً، ولم يكن له في السياسة ولا الأحزاب، ولم يكن في الغالب يعبأ، كل ما أراد بعد تخرجه هو أن يبحث عن وظيفة بعيداً عن ضيق العيش الذي تئنُّ منه قريته الصغيرة في الصعيد، ولأجل ذلك، سافر إلى القاهرة للبحث عن فرصةٍ أفضل، لم تكن تهُمُّه المُسمَّيات ولا نوعُ الوظيفة بقدر ما همَّه أن يجد متنفساً للعيش يؤمِّن له -كما هي أولويات غالب أبناء جيله- حياةً أفضل بعيداً عن شظف العيش بقريته في غياهب الصعيد، ولذلك قَبِلَ بوظيفةٍ متواضعةٍ بواحد من متاجر التوحيد والنور بأحد أحياء القاهرة، رأيته آخر مرة في صيف 2012 ولم يكن ساعتها قد اختلف كثيراً عما تركته قبل سفري، إلا أنه كان قد فقد الكثير من الوزن، وغدت ترسانة القاهرة تطحن اهتماماته حتى فقد كل هواياته عدا القراءة وتعلقه بتخصصه.

قضيت معه 3 أيام في غرفته المتواضعة امتلأت بالنقاشات الثقافية وكأننا لم نرَ بعضنا منذ دهر، أو كأننا لن نرى بعضنا لدهر.

تواصلنا بعدها يوم حصل على وظيفة مدرس للغة العربية بالقاهرة، كان سعيداً مسروراً، فاليوم يبدأ حياة جديدة: يمارس فيها ما أحب، وقد يتزوج فيها بمن يحب، بقي كذلك حتى صحوت يوماً على خبر موته مغدوراً، يا الله، أهو عبد الرحمن؟ أهو هو؟ بالله عليك قل لي إنه ليس هو؟ ماذا حدث؟! إنه هو: فقد تم القبض عليه بسبب لحيةٍ طالت بعض الشيء -لغير توجه فكري- وتركوه مع ثلة من الأبرياء في قيظ الصيف لساعات داخل عربة بلا نوافذ، اللهم واحدة حجمها 20 سنتيمتراً مضروباً بمثلها، ولما أحرقهم حر الزِّحام وقسوة الصيف ونقص الهواء، اعترض وزملاؤه بأصواتهم ودقات أيديهم، عسى من مجيب لكن هيهات، لساعات.. مضى الوقت وبدأوا يتساقطون من الإعياء والإغماء وتعالت أصوات مَن بقي فيه رمق، حتى جاءهم من ينجدهم، أو بالأحرى من ظنوا أنه سينجدهم: ضابطٌ راعه الصوت المتعالي وجاء ليسكتهم، ولما لم يسكتوا، فتح النافذة، ثم أخرج قنبلة غازية وأطلقها عليهم، ثم أغلق باب النافذة من خلفه، تعالت أصواتهم لوهلة، ثم سكتوا.. سكتوا جميعاً، لكن 37 منهم سكتوا للأبد.

أحمد حافظ قابلته في فريق الكشافة عندما كنا بالصف السابع، وكان يكبرني بعامين فعينوه لي مُعيناً حتى يعلمني كيف أتأقلم مع تدريبات الكشافة وأنشطتها، كَبرَ نبيهاً ذكياً مُحباً للعلوم وكبرت علاقتنا معاً، علاقة الأخ بأخيه، قضينا أوقاتاً رائعة في تعلم السباحة والتسلق والجري الطويل وغيرها، وقضينا مثلها أوقاتاً نستذكر الدروس في معسكرات المذاكرة، كبر أحمد وكبر معه حلمه حتى التحق بكلية العلوم التي طالما أحب، تخرج أحمد وبحث كغيره من أبناء جيله عن وظيفة كريمة، لكن أحلامه لم تجد إلا صخراً حطمها، قابلته بعد عام من سفري أيضاً في صيف 2012 وكان يعمل في محل بيع هواتف وخطوط اتصالات، نعم لم يحقق حلمه في العمل فيما يحب، لكن النظرة الحانية، والبسمة الصادقة لم تفارق ثغره أبداً، قضينا وقتاً رائعاً، وانتهى اللقاء بأني اشتريت منه هاتفاً لزوجتي، لم تكن لأحمد أحلام مستحيلة، ولم يبن أبراجاً عاجية، كل ما هنالك أنه أراد حقه في العمل في وظيفة يحبها، ولذلك خرج مع غيره منادياً بحقه في حرية وكرامة وعدالة اجتماعية، فتم القبض عليه عن طريق قوات العسكر، وأودع غياهب السجون حتى هذه اللحظة.

وأخيراً كريم، ذلك الشاب المهندس النبيه، الذي قصدني يوم أن كنت أعمل بالجامعة لأُعَلِّمه كيف يصمم موقعاً على الإنترنت وكيف يملأه بالصور المتحركة والتصميمات الجرافيكية، عرفته جاراً منذ أن كان طفلاً، لكني أعترف أني ذُهلت بشغفه بالتعلم، وكان حبه للأمر مبهراً لحد بعيد، وأعترف أنه لطالما أتعبني بأسئلته التي كانت ترهقني أحياناً كثيرة، لكني بقيت في عجب من طاقته وحبه وشغفه لتعلم المزيد، ما ذلت أذكر فرحته العارمة يوم أن صمم أول تصميماته، لم تكن ذات جودة عالية، لكنها كانت أفضل مما يفعله الكثيرون مما يدَّعون الاحترافية، تخرج كريم مهندساً معمارياً بدخل كريمٍ يجعله من ذوي الحظوة في بلد فرَّ منه الحظ فرار الفريسة من الأسد، لكنه لم يكن ممن يرضون بعيش الذل مع المال، ولم يكن يرضيه ما يعانيه أبناء جيله من ذل وامتهان، فخرج مع غيره منادياً بالحرية، إلا أن السجَّان كان أقدر منه، ووافق السجان هوى القاضي فرموه في السجن لخمس سنين.

يقول ويليام رالف إنغ: "أعداء الحرية لا يجادلون، بل يصرخون ويطلقون النار".

لا أعلم إن كنت محظوظاً لأني لم أُقتلْ ولم أُسجَنْ، أم أني جبانٌ لأني لست معهم فيما هم فيه الآن، لكني أعلم علم اليقين أننا يجب ألا نقف هنا.. سنظل نخرجُ ونكتبُ ونُسمعُ الكون كله مطالبنا من أجلهم، من أجل أرواح زُهِقت بغير ذنب، من أجل أعمارٍ بُذلت في غياهب السجون، من أجل عيشنا، وحريتنا، وكرامتنا، سنبقى هنا نجادلهم بكلمات أقوى من قمعهم ورصاصهم، حتى يتوقفوا عن قمعنا وعن إطلاق النار علينا، وحتى يملك أمرنا خيارنا وليس أولو القوة والسطوة فينا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد