كانت قد عاهدت نفسها، منذ زمن بعيد، ألا تخادعها وألا تسمح لهذه الأيام بأن تعكر صفوها أو تزعزع ما قد بنَته من سكينة وثبات. كان ذلك لقناعةٍ بأنها مرآتها الأولى والأخيرة، التي ما إن سمحت للكدورات بالتسلل إليها فلن تستعد هي في المقابل لارتسام ملامحها فيها ولا لأن تعكس لها حقيقتها التي طالما كانت تراها فيها.
فمن سنن وقوانين الحياة التي لن تتغير ولن تتبدل، أن ما تزرعه اليوم ستحصده في الغد، فلا تنتظر حصاد القمح وقد ملأت أرضك بذوراً قد اتخذتْها الحشرات قوتاً لها منذ عقد قد مضى.
لم تكن على علم بأن ما عاهدت نفسها عليه تكاد الاستحالة تقضي عليه، وبأن هذه الدنيا بما فيها لن تنفك حتى تنال من هذه المرآة بكل صورها وانعكاساتها، فمن الواجب عليها أن تعكس ما يتوافق وأبعاد تلك البقعة الجغرافية التي وُجدت فيها..
لم تكن تعلم بأن تلك الانعكاسات والصور التي أبهرتها ليست هي فقط من يظهر فيها أو ينظر إليها؛ فمن محرمات هذه البقعة الظهور بصورة حقيقية ذات أبعاد حقيقية ورؤية واضحة.
من حق الجميع، في عرف هذه البقعة، أن يرسموا ما يشاؤون من الصور والانعكاسات التي طالما حلموا بها فلا تنتج إلا صوراً مشوهة بلا ملامح وبانعكاسات متكسرة ومتبعثرة، حتى أصبح شعار هذه المرآة الدائم "الأجسام في هذه المرآة أصغر وأبعد مما تبدو عليه في الواقع".
منحنا هذه البقعة الحق المطلق، بادعاء المصلحة، أن ترسم أي صورة تشاء، كأن كل من كُسرت مرآته بات من حقه أن يرسم صورته المشوهة في مرآة غيره! فبدايةً، رسمنا أحلامنا المبعثرة وأمانينا الضائعة على مرآة أطفالنا حتى فقدوا الرؤية لأي شيء سوى لتلك الانعكاسات المبعثرة لصورهم على هيئاتنا التي طالما حلمنا بها ومنعَنا عجزُنا وفشلُنا أن نحققها.
وما إن اعتادوا صورهم المشوهة بهيئاتنا وُهِبوا لتشوهات ما على هذه الأرض، فقد منحنا هذه البقعة الحق المطلق لرسم أفكارهم، تخيلاتهم، وحتى إيمانهم، فما تجاوز إيمانهم أبواب بؤر التلقين تلك، التي لم يلقنوهم فيها سوى تشريعاتهم التي لا توافق شيئاً سوى أهوائهم.
فما كانت انعكاسات هذا الإيمان الصوري سوى انعكاسات عرجاء ندّعي بها الدين والتدين، وندافع عنه ونموت لأجله وما أبعد انعكاساتنا وتعرجاتنا عنه! لم تتجاوز تساؤلاتهم حدود "حلال أم حرام"؟!
وما إن تجاوزت السياق، تسارعت الصور الأخرى بتكميمها وتهذيب نشوزها واضطراباتها وأصبحت من مصادر تهديد أمن واستقرار هذه البؤرة. وإن تجاوزت صورهم اعوجاج تلك البؤر، وصلت لما قد يهلكها من التناقضات والاعوجاجات.
فقد عُلِّموا في قصائد الشعر والأغاني الوطنية التي سمعوها كل صباح في طابورهم المدرسي أن الوطن أغلى ما نملك وأن كل عطائنا هو هبة لهذه الأرض التي آوتنا وحمتنا، فما وجدوا إلا أن تلك القصائد هي أبعد الانعكاسات عن هذا الواقع، فصوتك الذي كان أمانة، في نهاية المطاف سيذهب لمن يدفع أكثر ولمن يَعِدك بتحقيق أحلامك الوهمية بإايصال صوتك لمكانه المنشود، لتجد صوتك قد مُحي واختفى تحت أنقاض الأصوات التي سبقتك، فصمتك الآن أغلى ما نملك.
وجدوا أن عطاءك نتيجته لن تراها سوى في جيب غيرك، ونتاجات عقلك لن تراها إلا في إبداعات غيرك.. هكذا، ستمنح وسام الشرف والانتماء لهذه الأرض التي منحتك الأمان مع وقف التنفيذ لمحالفة مع بقعة أخرى أو لصفقة مع ثانية. فبرفة عين، ستصبح لاجئاً في أرضك، إرهابياً بمرآتك إن هددت أمن هذه البقعة بحقيقة انعكاساتك أو بوضوح صورك.
ستكون على يقين، في نهاية المطاف، بأنه من الواجب عليك أن تكون "أوتوديمقراطياً" بامتياز، فهكذا ستُمنح حق ممارسة تناقضاتك وتشوهات انعكاساتك بكل أمان وأريحية. فقط، أفسح المجال لنفسك بأن تتمتع بها وتمارسها مع أولادك وأحفادك وأحفاد أحفادك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.