الموصل هي أول مدينة عربية [1] يدخلها العثمانيون في عام 1515م، وهي أيضا آخر مدينة يخرجون منها، في عام 1918م.. أي أن فترة بقائهم فيها تجاوزت الأربعة قرون، ولا يمكن لهذه الفترة ألا تترك أثراً كبيراً على الطبيعة الاجتماعية للموصل ولنسيج الحياة وطبيعة التفكير فيها، أي على العقل الجمعي الموصلي.
قبل دخول العثمانيين للموصل، كانت أمورها قد تدهورت كثيراً منذ آخر مرحلة ازدهار في عهد الأتابكة (عماد الدين زنكي وبدر الدين لؤلؤ)؛ حيث دخلها المغول في 1264م بعد أربع سنوات من دخولهم بغداد واستباحوها، ومن ثم دخلت المدينة في مرحلة تدهور تعاقبت عليها خلالها دول الخروف الأبيض والخروف الأسود التي كانت في الحقيقة اتحاداً لمجموعة قبائل تركمانية دون هيكلية واضحة للدولة.
وعندما سقطت بيد الصفويين عام 1508م كانت الموصل قد انتهت إلى أن تكون أشبه بقرية كانت سابقاً مدينة مهمة ومزدهرة، وكل ما تملكه هو بعض النشاط التجاري الذي يحتفظ لها بمكانة في منطقتها.
لكن التوسع الصفوي في المنطقة ووصوله إلى ديار بكر هو الذي جعل العثمانيين -في عهد السلطان سليم الأول- يهتمون ببلاد العرب؛ حيث كان اهتمام العثمانيين قبلها يتجه إلى أوروبا، لكن صعود الدولة الصفوية وتوسعها في المنطقة جعل العثمانيين يلتفتون جنوباً وكانت معركة جالديران 1512م التي انتصر فيها العثمانيون على الدولة الصفوية هي فاتحة دخولهم الموصل وحلب.
كانت كل من الموصل وحلب تمتلكان موقعاً مهماً بالنسبة لتجارة الدولة الصفوية، خاصة تجارة الحرير المتجه إلى البحر الأبيض؛ لذلك كان طرد الصفويين منهما يمثل ضربة اقتصادية للصفويين، بالإضافة إلى ما تحقق للعثمانيين من نصر في جالديران؛ حيث احتلوا مدينة تبريز التي كان الشاه إسماعيل الأول قد أعلنها عاصمة له.
دخلت الموصل في عهد العثمانيين عهداً جديداً مختلفاً، فقد اتخذها العثمانيون أهم قاعدة لهم ضد النفوذ الصفوي، وخلال سنوات أصبحت الموصل ولاية مستقلة من ولايات الدولة العثمانية، ولعل هذا الأمر (الوقوف بوجه الصفويين وعلاقته بكيان الموصل ووجودها) كان له أثر في تكوين النفسية الموصلية وتشكل هويتها.. لقد رسخ بالتدريج في عقول الموصليين ووجدانهم هذا الربط بين وجودهم وكيانهم وازدهارهم وبين الوقوف ضد النفوذ الصفوي، خاصة أن فترة سيطرة الصفويين على الموصل شهدت نفوراً كبيراً منهم، بسبب حرص الصفويين على إظهار عدائهم للمذهب السني الذي يدين به أهل الموصل.
لكن الدولة العثمانية أيضاً كانت على موعد مع تغيير كبير خلال سنوات من دخول العثمانيين الموصل، فقد تسلم السلطان سليمان القانوني مقاليد الحكم وجاء بإصلاحاته القانونية القضائية وإنشائه "المدونة القانونية"، والأهم من كل ذلك حرصه على تطبيق القانون على نحو عصري موحد في كل الإمبراطورية العثمانية التي بلغت أوجها في عهده.
لقد كانت الدولة العثمانية تمر بأهم وأنضج مراحلها ليس على صعيد بناء الدولة وتوسعها فحسب، بل أيضاً على صعيد الثقافة والفنون.
تزامن دخول العثمانيين الموصل مع دخول الدولة العثمانية في عهد إصلاحاتها القانونية إذن، وهذا كان له أثر بالتأكيد فيما كان العثمانيون يؤسسونه في الموصل، ولأن الموصل كانت قد تدهورت إلى حد أن تكون شبه قرية، فقد كان تأسيسها من جديد على أسس مرتبطة بالقانون والإصلاحات القضائية أقل تعقيداً مما لو كانت الموصل آنذاك حاضرة كبيرة ومهمة.
أزعم أن هذا التزامن كان له أثر كبير على النفسية والعقل الجمعي الموصلي فيما يظهر من حرصهم على الانضباط والالتزام بالقانون والجدية..بالنسبة لهم، ولدت مدينتهم من جديد، وبدأت تزدهر وبدأوا يشعرون بالأمان، عندما جاء القانون، كان ذلك بمثابة ركن مهم يؤسس ويثبت العقل الجمعي الموصلّي قيد التكوين.
سيكون السؤال الأول المطروح هنا: ما هي مصلحة الدولة العثمانية في تطوير الموصل وبنائها؟ أليست في النهاية دولة استعمارية يهمها نهب الخيرات.. إلخ؟
بالتأكيد الدولة العثمانية كانت لها مصالحها ولم تكن جمعية خيرية في أي وقت من أوقاتها، لكن التصور السائد بأن مصالح الدول الاستعمارية تتعارض دوماً مع مصالح الشعوب المستعمَرة ليس صحيحاً على الدوام، قد يكون من مصلحة الدولة المستعمِرة -بكسر الميم- أن تقوي بنية الشعوب المستعمَرة -بفتح الميم- ليس من أجل سواد عيون تلك الشعوب، بل لكي تكون هذه الشعوب (وبلدانها) سداً بوجه العدو الأساسي لتلك الدول الاستعمارية.. وهذا ما حدث بالضبط مع الموصل.
كانت الدولتان العثمانية والصفوية في صراع مرير، وكانت الموصل (جنوب تركيا الحالية) تقع بين منطقة نفوذ الدولة الصفوية التي كانت تحتل معظم العراق، وبين الدولة العثمانية، لو أن الموصل سقطت بيد الصفويين، لكان ذلك تهديداً مباشراً على الدولة العثمانية، وخطراً ينذر باقتراب الصفويين من الأناضول.
وكانت الدولة العثمانية، خاصة في مرحلة سليمان القانوني، تعيش في عهد نضجها الذي يجعلها تعرف أن القوة لا تكون عبر الجند والسلاح وتحصيناتهم فحسب، بل أيضا في القانون والتنظيم.
إذن، كان يجب أن تكون الموصل قوية، لكي تصد الصفويين، ولكي تكون قوية، يجب أن تبنى على أساس قوي وسليم؛ نظام، قانون، انضباط.. ويتسرب هذا شيئاً فشيئاً ليُسهم في تأسيس العقل الجمعي الموصلي.. والموصل تستفيد، ليس لسواد عيون (الموصليين)، بل لأن المصالح تتوازى أحياناً.
السؤال الثاني سيكون لماذا لم يحدث ذلك في أماكن أخرى بنفس الشكل من العراق، رغم أن بغداد نفسها فتحت من قبل سليمان القانوني بعد أقل من عقدين من فتح الموصل؟ لماذا يبدو تطور الموصل مختلفاً عن تطور بغداد؟ ألم يكن ممكناً أن تعتبر بغداد أيضاً مصداً للصفويين وتستفيد من إصلاحات الدولة العثمانية؟
ما حدث في الموصل لم يحصل في بغداد، بل لم يحدث في أغلب مناطق العراق لسببين:
الأول: التهديد الدائم بالغزو:
بحكم الجغرافيا كانت بغداد معرضة دوماً لتهديد من جهتين؛ الأولى وهي الأهم الغزو الصفوي العدو المزمن للدولة العثمانية؛ حيث استمرت الحرب بين الدولتين طيلة ثلاثة قرون، وفي الفترة بين 1514 و1823 نشبت حوالي إحدى عشرة حرباً بين الطرفين، دامت ما مجموعه 80 عاماً.
وبالتأكيد كانت بغداد مهددة أكثر من الموصل لقربها جغرافياً من بلاد فارس، وسقطت فعلاً خلال أقل من قرن من فتحها بيد العثمانيين، وبقيت ثماني سنوات قبل أن يستردها العثمانيون، لكن الخطر ظل قائماً دوماً.
أما التهديد الثاني فقد كان من جهة الغرب، من طرف البدو والأعراب الذين كانوا يتحينون الفرص للهجوم على المدينة، واستباحوها فعلاً عام 1799م.
الموصل كانت نائية عن الأمرين، تعرضت بعد قرنين تقريباً من فتحها لحصار نادر شاه الصفوي الذي ترك أثراً اجتماعياً كبيراً على العقل الجمعي الموصلّي (كما سيأتي لاحقاً)، ولكن هذا الحصار لم يتكرر ولم تسقط المدينة أبداً بينما بقيت بغداد تحت التهديد الدائم.
وكانت النتيجة أن بغداد المنكوبة بجغرافيتها لم تتسنَّ لها فرصة الاستقرار الذي يكرس فكرة القانون والنظام، بينما كانت الجغرافيا لصالح الموصل في هذا الشأن.
استقرت الموصل بعيدة عن الصفويين وعن الأعراب (إلى حد بعيد)، وأتاح هذا فرصة النمو لبذور القانون والانضباط التي نراها في الموصليين.
الثاني: فيضانات دجلة
كانت بغداد تتعرض لفيضانات دجلة (وهو أمر نجت منه الموصل لارتفاعها عن مستوى النهر مقارنة ببغداد)، وكانت الفيضانات تجلب الأوبئة والمجاعات التي تفتك بالسكان.
مبدئياً، الفيضانات من هذا النوع تعكس ضعف الإدارة التي يفترض أن تدير السدود والقنوات الإروائية، لكن عندما يكون هناك غزو ما قادم دوماً، فبالتأكيد لن تتورط أي إدارة في مشروع طويل الأمد مثل هذا.
وهكذا كان الفيضان (وتوابعه) يأتي بين الحين والآخر ويتعاون مع الغزو وخطر الغزو القادم من هنا وهناك ليزيل عن بغداد أي استقرار يمكنها من أن تتشرب بفكرة القانون والانضباط.
الوضع في الموصل لم يكن مثالياً، كان هناك أوبئة وجفاف ومجاعات وكان هناك مظالم أيضاً بالتأكيد. لم تكن الأمور مستقرة تماماً، لكن الاضطراب في الموصل كان ناتجاً عن تغييرات داخلية تحدث في المجتمع، وليس نتيجة غزو خارجي أو كارثة طبيعية، خلال ذلك طبق العثمانيون قانوناً على الموصل فقط، بين كل مناطق العراق، وكان له نتائج بعيدة، مما أصبح جزءاً من شخصية "الموصلّي" المختلف.
(يتبع)
[1] هناك خلاف على هذه المعلومة لصالح حلب التي يقال عنها إنها أول مدينة دخلها العثمانيون، وربما كان العثمانيون قد دخلوا الموصل ثم انسحبوا منها ودخلوها لاحقاً بعد فتحهم لحلب.
هذه التدوينة تم نشرها على موقع الدكتور احمد خيري العمري.. تجد رابطها هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.