ما لم تنجزه “الجزيرة”

إن وسائل الإعلام بشكل عام هي وسائل تأثير آني وتغيير طويل المدى، وليس كما يروج مؤيدو الاستبداد في العالم العربي من أن هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك قادرة على تحريك الشارع وإسقاط أنظمة، ولهذا يعد الاستثمار الثقافي وحتى المالي في مثل هذه المشروعات هو استثمار مربح سواء ابتغى صاحبه الربح المادي أو المعنوي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/03 الساعة 06:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/03 الساعة 06:39 بتوقيت غرينتش

ظهرت الجزيرة في الواقع العربي كما ظهرت السيارة أول مرة لدى بدو الصحراء؛ منهم من توجَّس منها خِيفةً وكأنها جنّي، ومنهم مَن قاطعها وفضَّل الخيل والبغال والحمير، وحدهم الشباب الذين رحبوا بالاختراع الجديد حتى أصبحت السيارة جزءاً من الحياة اليومية مع مرور الوقت، كذلك كانت الجزيرة اختراعاً جديداً لم يألفه المشاهد العربي المعتاد على إعلام الصوت الواحد، والطريق ذي الاتجاه الواحد، حتى إن كثيراً من أبناء الطبقة المتعلمة المفترض فيها سعة الاطلاع، لم يتقبّلوها في بداية الأمر، رغم حرصهم على مشاهدتها، ظناً منهم أن تعدد الآراء يشتت الأذهان، والحل يكمن في إعلام أمين يوجه ويعلم، كما لو كان معلماً في مدرسة.

وبمرور السنين اعتاد المشاهد على الاختراع الجزيري الجديد، وأصبح يفاضل بين سيارة الجزيرة وسيارات أخرى جديدة، يتنقل بين هذه وتلك.

حاول منافسو "الجزيرة" أن يستنسخوها في بداية الأمر، فظهرت تجارب باهتة تحاكي الأصل، ولا تصل إليه، وتنسخ حتى وزن الكلمة وتاء التأنيث، ولا تضاهي الجزيرة حتى في سقف الحرية الذي هو بيت القصيد في تجربة القناة.

توالى المنافسون واحداً تلو الآخر يتصارعون على مشاهد الأخبار حتى أصيبت الساحة الإعلامية العربية بما يشبه التخمة في القنوات الإخبارية، ملايين تتدفق من دول هنا وهناك، وكلهم تقريباً قد حشروا أنفسهم في مساحة منافسة "الجزيرة" في الإطار الخبري.

تركتهم "الجزيرة" يتنافسون وتوجهت إلى المشاهد الصغير ورجال المستقبل، وأسست "الجزيرة أطفال" ومن بعدها "براعم"، فكان لها قصب السبق في استهداف هذه الشريحة بخطاب إعلامي مختلف يقوِّم اللسان ويغرس ثقافة أصيلة، ولم يهتم أحد بالمنافسة في هذا المجال؛ لأن نظرة كثيرين قاصرة عند حدود السياسة بمفهومها التقليدي، وقد خطت "الجزيرة" خطوة أخرى عند تأسيس قناة باللغة الإنجليزية؛ لتخاطب المشاهدين في العالم بلغة جديدة، وهو جمهور متعطش لأصوات جديدة تخاطبه بلغة إعلامية مختلفة، لكن لم يتنافس في ذلك متنافسون عرب آخرون لأسباب غير معروفة.

أعتقد أن ضعف كثير من منافسي "الجزيرة" أثر سلباً على الجزيرة نفسها، وعلى الساحة الإعلامية العربية خلال السنوات الماضية، فاستمرت القناة لسنين طويلة وحدها في الملعب تسجل الأهداف في مرمى الخصوم من دون تحدٍّ حقيقي يقفز بها وبالآخرين خطوات واسعة نحو تطوير الشكل والمضمون وإثراء المحتوى الإعلامي العربي.

لقد كان إنشاء قناة تقدم الأخبار، ومنزوعة الأغاني والمسلسلات، مشروعاً محكوماً عليه بالفشل في العالم العربي عام 1996، لكن المؤسسين قبلوا التحدي ونجحوا في فتح القلوب والعقول وأسسوا لتجربة رائدة رغم أي اتفاق أو اختلاف معها، وقد أثبتت تجربة "الجزيرة" أن المشاهد العربي توَّاق للثقافة والمعرفة، وأنه قادر على هضم أي مشروع ثقافي وإعلامي جاد، وليس صحيحاً أن الأغاني أو المسلسلات والأعمال الفنية هي الوحيدة القادرة على توحيد المشاهدين العرب.

ولا تزال هناك شرائح مختلفة وكبيرة من المشاهدين العرب وغير العرب يحتاجون إلى رسائل إعلامية متنوعة، ولن تستطيع "الجزيرة" أن تغطي كل فنون التليفزيون.

فمن ناحية، لا أعتقد أنها ترغب في الاتساع أكثر، ومن ناحية أخرى ربما ليس مطلوباً منها ذلك، يكفيها أن تحافظ على ما حققته من إنجاز وأنها فتحت الباب، والدور الآن على تجارب إعلامية أخرى تأخذ نفس المخاطرة التي خاضتها "الجزيرة" وتتوجه إلى جمهور جديد تفتح وعيه على أفق فني تليفزيوني مختلف، وتصنع مشاهدين جدداً ووعياً جديداً يعبّر عن المشاهد العربي.

إن وسائل الإعلام بشكل عام هي وسائل تأثير آني وتغيير طويل المدى، وليس كما يروج مؤيدو الاستبداد في العالم العربي من أن هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك قادرة على تحريك الشارع وإسقاط أنظمة، ولهذا يعد الاستثمار الثقافي وحتى المالي في مثل هذه المشروعات هو استثمار مربح سواء ابتغى صاحبه الربح المادي أو المعنوي.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد