تأسرني بين حين وآخر مبادرات أو مشروعات أو اجتهادات يكون أبطالها أفراداً يبذلون الغالي من جهدهم وأوقاتهم وعزيز أموالهم من أجل تقديم خدمة أو تحقيق هدف سامٍ ونبيل في محيط مجتمعهم أو لصالح أمتهم، يتسامون فيها على راحتهم، ويتجاوزون حالة الرفاهية أو الدّعة التي يعيشون فيها، ويتخلّون عن الكثير من سهْل الحياة وملذاتها والعيش كما غالب الناس بلا تعب أو مشقّة، فيضعون نصب أعينهم هدفاً يرومون تحقيقه، ترتقي اهتماماتهم لأجله بكل صبْر وجلَد -ربما- إلى حدّ (العناد) لا لشيء سوى أن سويّة التفكير والبناء عادة ما تقود الإنسان إلى طموحات سامية والتفاتات نبيلة للحياة تدفعه إلى أن يكون نموذجاً أو أن يقدّم شيئاً يرضي ربه ويحقق ذاته.
وفي زحمة الإحباط الذي يسيطر على الكثير من مناحي حياتنا، وفي ظل أن سلّم الأولويات والاهتمامات مائل ومعوج، بحيث إن الأبصار ومعها الأسماع لا تكاد تغادرها أخبار وصور أبطال ونماذج من النوع المألوف -في وقتنا الحاضر- لا سيما في مجال الطرب والفن والرقص والرياضة، وما شابهها من مجالات بعيدة عن فعل الإنجاز الحقيقي، وغير مؤثرة في البوصلة المفترضة للنجومية ونهضة المجتمعات.
يحزنني أن تغيب أو أن تتسرّب عن الظهور للعلن مثل تلك النماذج المعطاءة التي امتلكت إرادتها وقادها طموحها لإنجاز قلّ نظيره، وندُر مثيله، تستحق أن تكون هي عليه في الطليعة، هكذا يُفترض لولا أن مفاهيم الإنجاز قد اختلطت، ومعاني الإبداع قد تغيّرت، فنقصت معها العزائم، وهانت الهمم؛ لترضى بالقليل، وتقتنع بالدّون من الأشياء، فتألفها وتظنّ أن هذه -ربما- منتهى الآمال والأمثال.
لا أريد أن أسترسل أكثر في هذه المقدّمة التي أردتُ من ورائها الحثَّ على ضرورة إبراز نماذج الإبداع والتميّز الحقيقي وإفساح المجال للناس، وخصوصاً أجيالنا للتعرّف عليها، أملاً في تعديل سلّم الأولويات وتعديل بوصلة اهتماماتهم ووقف انحرافها لغير أماكن الفعل الحقيقي للنجومية.
في أواسط الشهر الماضي -على سبيل المثال وليس الحصر- تم الإعلان عن حصول البحرينية خولة مطر على جائزة أمين عام الأمم المتحدة للشجاعة بين كل العاملين في الأمم المتحدة بالعالم تقديراً لدورها وشجاعتها وإقدامها على العمل في الكثير من المناطق الساخنة، مثل: اليمن، ولبنان، وجيبوتي، والبوسنة والهرسك، ومؤخراً في سوريا؛ حيث استطاعت الدخول في قلب الحدث، وتمكنت من الوصول إلى مدن وقرى هناك يتحرّك فيها لهيب النار والخراب، مثل دمشق وغيرها مما استطاعت بفضل إصرارها وحرصها وعملها هناك لما يقارب العامين الاثنين أن تنقل للعالم صورة ميدانية عما يحدث هناك من قتل ودمار، وأسهمت في المساعدة الأممية على رفع الحصار عن مناطق وتسهيل وصول المساعدات.
خولة مطر الحاصلة على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا الإعلام من جامعة "درهام" في المملكة المتحدة في عام 1992 تشغل منصب نائب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، وتقلّدت عدداً من المناصب والمهام الإعلامية والحقوقية في بلادها البحرين وخارجها، وسلكت مسؤولياتها في مكاتب وبرامج وهيئات الأمم المتحدة، حتى أصبحت إحدى الشخصيات الهامّة التي يُعتمد عليها في فرق العمل والتفاوض في القضايا الدولية.
خولة مطر عندما تسلّمت الجائزة قالت: "ليس مطلوباً منّا أن نتحدّث، ولكني قلت للأمين العام إن الشعب السوري يستحق ما نقوم به وأكثر، وإن هذه الجائزة ليست لي وحدي، وإنما لكل فريق الأمم المتحدة والشعب السوري".
لكننا هنا نحتاج أن نتكلّم عن خولة مطر، فهي تستحق أن نشكرها، مثلما يستحق أبناؤنا وبناتنا أن يطَّلعوا على إنجازها، وأن يقفوا على شجاعتها، وأن يقتدوا باهتماماتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.