"إن لدينا أولويات نحرصُ على مراعاتِها، فليس من المتصور أن يكونَ لدينا احتياج لتوفير المساكن والخدمات والمرافق، ونتجه لأمور أخرى حالياً" قالها مبارك خلال جولته بمحافظة الإسماعيلية في عام 2007، مباغتاً حكومة الدكتور أحمد نظيف، إثر إرسالها خطاباً لمجلس الشورى يفيد بانتهائها من التخطيط لإنشاء عاصمةِ جديدة، تصريحات ما لبث أن تداركها الدكتور مصطفى مدبولي، نائب رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني حينذاك، موضحاً أن ما تم الحديث عنه لم يخرج عن إطار "المدينة الحكومية الجديدة"، وهي مقر للوزارات ومجلسَي الشعب والشورى يقع على أطراف القاهرة.
أولويات بلا شك كان يحرصُ مبارك على مراعاتها قولاً لا فعلاً، فبعد ٤ سنوات على ذلك التصريح، تفجرت ثورة كان من أهم أسبابِها إهمال الدولة الجسيم لتلك "الأولويات" التي من المفترض أنها استحوذت على اهتمام الدّولةِ كاملِ غير منقوص.
الفكرة إذن ليست بالجديدة، ولكنّها عميقةُ الأثر كاشفة، إذ إن كثيراً ما لاحت أفكار بناء العواصم على الأنظمة السياسيّة الراغبة في ترك تلك البصمة الغائرة في تاريخ أمَمِها؛ عاصر العالمُ من تلك الرغبات الكثير وعاصرت مصر قدراً لا بأس به منها، بداية من طيبة جنوباً، شمالاً تجاه منف والإسكندرية ثم عودة إلى الفسطاط فالقاهرة، مروراً ببعض المحاولات غير الموفقة والتي تمثلت في أخيتاتون بتل العمارنة، قطائع أحمد بن طولون بالقاهرة القديمة، مدينة الثورة (مدينة نصر) والعاشر من رمضان.
مثلت معظم تلك العواصم تجسيداً لرؤى ملهمي الأمة ومُخَّلِصيها في نسقِ حالم يجمع البشر بالحَجْر، إلا أن التقدّم المتسارع في القرنين السابقين ساهم في تثبيت أركان التخطيط العمراني كعلم ذي أصول وقواعد واضحة، تُعَرِّف الموسوعة البريطانية التخطيط العمراني بكونه "تصميم وتنظيم استخدامات الفضاء الحضري باستهداف الشكل المادي، الوظيفة الاقتصادية والآثار الاجتماعية للبيئة الحضرية، نتيجة لاعتماد التخطيط الحضري على الهندسة المدنية، الهندسة المعمارية، التعامل مع المخاوف الاجتماعية والسياسية، فهي مهنة فنية، ومسعى ينطوي على الإرادة السياسية والمشاركة العامة، والانضباط الأكاديمي"، وهو تعريف يتفق في خطوطه العريضة مع مختلف نظريات التخطيط العمراني على مختلف مدارسها، ويعنينا منه كمواطنين الجزء الأخير والمتعلق بالمشاركة العامة.
أصبحت المشاركة العامة جزءاً لا يتجزأ من عملية التخطيط العمراني، وعنصراً أساسياً من عناصر التنمية العمرانية ذات البُعد التقدمي على مختلف مقارباتها، يُبدع معماريو العالم حالياً أساليب جديدة وخلاقة بصفة مستمرة بهدف تطبيق مبدأ التخطيط التشاركي والمشاركة العامة تطبيقاً لا يهدف لتشييد مدن شاهقة العمران ولا مدن ذكية بقدر ما يهدف لبناء مدن مستدامة بيئياً وسعيدة.
يُدرك الدكتور مصطفى مدبولي وزير الإسكان ذلك، ولكنه لسببِ أو لآخر يكتفي بإشادة الرئيس لا المجتمع على أحدث التصاميم والمخططات الخاصة بالعاصمة الإدارية الجديدة لتدخل وفوراً حيز التنفيذ بمجرد موافقة سيادته، في مارس/آذار من العام السابق، وفي حلقة لبرنامج آخر النهار، استضاف الإعلامي خالد صلاح الدكتور مصطفى مدبولي؛ ليشرح ولأول مرة المخطط المبدئي للعاصمة الإدارية، ليؤكد خلال العرض وبما لا يدع مجالاً للشك أن ذلك النموذج ما هو إلا نموذج مبدئي، وأن جميع الأفكار سوف تطرح على المواقع الإلكترونية لاستبيان آراء المواطنين في عاصمتهم الجديدة، تصريح مشابه جاء على لسان دان رينجليستين، مدير التخطيط الحضري لشركة SOM المسؤولة عن تخطيط العاصمة حينذاك، قبل استبدالها فيما بعد بتحالف 5+ للتنمية العمرانية، تصريحات وللأسف ضلت سبيلها نحو التنفيذ مع دخول الأسبقية الأولى من المشروع في طور التنفيذ.
لم تناقَش تفاصيل المخطط العام للعاصمة الإدارية على الرغم من جاهزيتها منذ قرابة العام، كما لم تعرض على الرأي العام بعد تصميمات المدينة الحكومية ولا البرلمان، الممثل -أو هكذا يفترض أن يكون- للإرث الحضاري والتاريخي للنظام السياسي المصري، على الرغم من انتهائها بعد مهلة حكومية قُدرَت بثلاثة أشهر، حسب ما ذكر موقع الشركة الصينية المكلفة ببناء الحي الحكومي، فقط عُرضت لمحات منها على عجل في فيديو بعنوان "إرادة مصرية" أنتجته إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية احتفالاً بالذكرى الثالثة لثورة 30 يونيو/حزيران.
في رأيي، اختارت وزارة الإسكان الطريق الأسهل لتنفيذ هذا المشروع، ذلك الطريق الذي آثرته الدولة المصرية لإدارة شؤون مواطنيها مؤخراً، ألا وهو اعتماد الخيار ذاته من الضبابية لا الشفافية، تكرار ما تتقنه لا التجربة أو الابتكار، النخبوية لا المشاركة المجتمعية وفق مخطط يقوم على تنفيذه التكنوقراط لا السّياسيين، اختارت معدلات الإنشاء المرتفعة لا معدلات التنمية الحضرية المستدامة، قد أكون مخطئاً، وقد يكون اختيار الدولة هو الاختيار الأصح من كل ما سبق، ولكنه بالتأكيد يبقى اختياراً في الظل، يخطئ بلا شك من يجزم بصحته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.