يعد كتاب "في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة" للصحفي البريطاني جون آر برادلي "John R. Bradley "، الذي صدرت طبعته الأولى في مايو/أيار 2008 عن دار نشر بالغريف ماكميلان في الولايات المتحدة الأميركية، وقامت بترجمته إلى العربية مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة في عام 2012م من أهم الكتب التي لاقت رواجاً إعلامياً متعدد الاتجاهات الفكرية والسياسية على مستوى الوطن العربي، كونه قد نال اهتمام الكثير من المفكرين والمهتمين بالشأن السياسي المصري على وجه التحديد.
حيث يرصد برادلي، الذي يعد واحداً من أبرز المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط في المراكز البحثية الغربية، الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر، ومستشرفاً ما يمكن أن تؤدي إليه تلك الأوضاع من نتائج.
وتناقلت حينها وسائل الإعلام المختلفة أنه تنبأ باندلاع ثورة وشيكة في مصر في مواجهة حالة اللامبالاة التي سيطرت على الشعب المصري منذ عقود، ولذلك منعت السلطات المصرية أبان حكم الرئيس الأسبق لمصر حسني مبارك تداول هذا الكتاب في طبعته الأولى 2008م.
وعلى الرغم من الحملة الدعائية التي حظي بها الكتاب، فإن هنالك قضايا جوهرية لامست الواقع المصري من خلال معايشته لكثير من الأحداث ذات الصلة بالواقع المجتمعي/ الاجتماعي المصري، والقرب من مصادر اتخاذ القرار، لا سيما وسائل الإعلام على مختلف توجهاتها التي ساهمت في بلورة روح الثورات العربية، التي باتت تعرف اليوم بما يُسمى ثورات الربيع العربي؛ حيث بدأ الكاتب بإسقاط سياسي لرائعة الأديب علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان"، التي عكست الواقع المصري خلال مراحل معينة من تاريخ مصر؛ ليؤكد أن السياسة والفن صنوان متلازمان، وأنهما مرآة عاكسة للوضع الاجتماعي والسياسي بمختلف تفاصيله.
وأوضح أن هنالك مؤشرات فعلية تؤكد حتمية اندلاع ثورة، وعلى الشعب المصري أن يختار الطريق الذي ينبغي أن يسلكه في الاتجاه الذي يلبي احتياجات المجتمع وتطلعاته، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وانتظار لحظة اندلاع الثورة، والبحث عن سيناريوهات التصعيد المحتمل، وكان الخيار الخروج للشارع للتعبير عن السخط الشعبي.
لكن ما يمكن أن يؤخذ على محتوى الكتاب أنه لم يشِر إلى التراكمات الحقيقية التي شكلت بمجملها معطيات فعلية لاحتمال اندلاع ثورة أو احتجاجات شعبية أو جماهيرية للتعبير عن الاستياء من الوضع الراهن، وأبرز تلك المعطيات هي: حالة الركود أو الجمود السياسي في مصر بعد انتخابات 2005م، والإعلان عن "العبور للمستقبل" بانتخاب حسني مبارك بولاية جديدة، هذا الركود السياسي الذي شهدته مصر بعد تلك الانتخابات الرئاسية تمثّل في بروز ثقافة الاستحواذ من خلال ما يبدو أنه تغير ديناميكي في الانتخابات البرلمانية اللاحقة، والشعور بحالة من التوجس من جراء النتائج التي تمخضت عنها تلك الانتخابات.
وفيما يبدو أيضاً أن بعض القوى السياسية -اليسارية- وجدت أن هنالك تبادلاً للأدوار بين الحزب الوطني والإخوان المسلمين "المستقلين"، حول ماهية الثقافة السياسية المطلوبة للتعامل مع نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية في آن واحدة، مما يعكس أن هنالك بوادر محتملة لفرز حقيقي على المستوى -الأطر المجتمعية- والبحث عن مكونات سياسية أو اجتماعية ما زالت خارج السياق كـ"السلفيين والصوفيين"، على اعتبار أن مصر عبر التاريخ (سنية) المذهب(شيعية) الهوى.
فضلاً عن وجود مكونات شبابية لم يتم تأطيرها في سياقات حزبية أو اجتماعية ولديها تطلع نحو التغيير، وأكثر قرباً من الوسائط الإعلامية التي تستطيع من خلالها مواكبة الأحداث الحالية في الوضع الدولي الراهن بالشرق الأوسط، الذين وجدوا أنفسهم في الملعب السياسي لإيجاد التوازن مع الإخوان في إطار ما يسمى التيارات الإسلامية، وهذا ما يؤسس لما يمكن أن يوصف مجازاً بـ"ثورات الربيع العربي"، التي تحولت من مجرد مطالب (شعبية) ذات أبعاد فردية إلى احتجاجات واسعة النطاق للبحث عن مزيد من الشعارات "الشعب يريد إسقاط النظام"، و التي قد تفقد جزءاً من مضمونها في كثير من الأحيان إذا لم تكن هنالك رؤية واضحة المعالم تستند على المتغيرات القائمة في ظل الأوضاع الدولية الراهنة في المنطقة العربية، بعيداً عن استخدام مصطلحات قد تبدو أنها مناسبة، ومنها المصطلحات ذات الصلة "بتطبيق الشريعة الإسلامية" التي ظهرت في بعض الميادين.
غير أنها في كثير من الأحيان لا تكاد تصل إلى ما يمكن أن يشكل قناعة لدى الآخرين بأن هنالك تغييراً حقيقياً بل مجرد استنهاض للهمم والتلاعب العبثي بوعي الشعوب التواقة إلى تلبية الاحتياجات الأساسية لها من الأمن والاستقرار وتحسين ظروفها المعيشية وتوفير الخدمات الأساسية في مختلف القطاعات، وبحسب أولوياتها، والتي تواجه صعوبة في الإيفاء بها، نتيجة للكثافة السكانية وسوء التخطيط البرامج، وبالتالي أضحت الشعارات المنادية بالحرية هي الملاذ السيكولوجي للشباب في مواجهة تلك التحديات.
وفي نهاية المطاف، قد يكون الحادث العرضي الذي سبب اندلاع الثورة التونسية عندما أضرم البوعزيزي النار في نفسه وألهب مشاعر الجماهير التونسية الغاضبة للثورة ضد الفساد والاستبداد السياسي هي ذاتها اللحظة التاريخية التي سبق أن أشار إليها المفكر العربي ابن خلدون، عندما حدث اعتداء على المواطن خالد سعيد في أحد أقسام الشرطة في الإسكندرية، وبالتالي أصبحت تلك اللحظة الآنية التي أشعلت فتيل الثورة المصرية لتخرج الجماهير لتعبر عن حالة الاحتقان السياسي والظلم الاجتماعي، ولذلك فقد تحولت الشعارات التي نادت بها الثورة المصرية من إسقاط النظام إلى المطالبة بتنحي الرئيس مبارك.
وكما أشار برادلي إلى أن الإخوان قد تكون القوى السياسية المنظمة التي بإمكانها الوصول للسلطة، ولكنة لمّح بطريقة أو بأخرى إلى أن هنالك نوعاً من المبالغة في تصوير الإخوان بأنهم بذلك الطموح السياسي للوصول إلى السلطة.
ولربما بعض القوى العلمانية أدركت أن من مصلحتها أيضاً أن تبالغ في إشعار الخارج والمجتمع الدولي بأن لدى لإخوان "نزعات براغماتية قوية"، وبأنهم "مستعدون للمساومة على أيديولوجيتهم"، وأنهم من أهم القوى السياسية المؤهلة لتولي الحكم بعد تنحي مبارك، ولكنهم كما يبدو يدركون الدور المطلوب منهم في تحريك الرأي العام تحت شعارات ذات أبعاد حقوقية وذات صلة بالقضايا اليومية للمواطن المصري من خدمات أساسية وخلافه، وليس من أجل الاستحواذ على السلطة بمختلف مكونات الحياة السياسية والعامة.
ولذلك وجدنا الثورة المضادة فيما عرفت بثورة 30 يونيو/حزيران بغض النظر عن تسميتها ثورة أو مجرد انقلاب عسكري، ولكنها أعطت أنموذجاً لمصر المحروسة في التعامل مع السياق الاجتماعي، مقروناً بالأدوار التاريخية والريادية لمصر خلال عقود من الزمن، وأثبتت أن هنالك رهانات حقيقية لتجاوز الأزمات وهي "قوة الشباب وإرادته، والمؤسسة العسكرية، وإدراك أهمية العامل الخارجي ممثلاً بالمجتمع الدولي".
الذي يمكن أن يشكل أحد العوامل المؤثرة في المشهد المصري ومستوى علاقاتها الخارجية، والتي أشار إليها الكاتب "جايسون براونلي" في كتابه "العلاقات المصرية الأميركية: إجهاض الديمقراطية – الحصاد المر"، الذي يعكس أن الحالة المصرية قد عبر عنها الكاتب برادلي برؤيته الصحفية وملامسته عن قرب لما يدور في المجتمع المصري التي تتطابق إلى حد ما مع المفكر الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، غير أننا نؤكد أنها ليست كما أشار إليها بعض النقاد بأنها تنبؤات بأن أرض الفراعنة على شفا ثورة، بل لأن الشعب المصري بأدبائه ومفكريه ومواطنيه كانوا على وعي وإدراك عميق بأن التغيير المنشود يتطلب مزيداً من الفهم للواقع الاجتماعي بأبعاده السياسية والاقتصادية للحفاظ على المقدرات التاريخية والمكتسبات الوطنية.
والعمل من أجل ترسيخ دعائم الأمن القومي المصري، وفي طليعتها الأمن الغذائي، والتعامل الخلاق مع المستجدات، بعيداً عن وهم الـ"أنا" أو الـ"نحن"، أو البحث عن تفاصيل لأجندات داخلية أو خارجية، للحديث عن ماهية الثورة المصرية، ودور التعددية الثقافية في المجتمع المصري، على خلاف ما ذهب إليه الكاتب بأن "البلاد لا تزال عبارة عن خليط من الطوائف العرقية والدينية والمحلية المختلفة التي تعارض بقوة الحكم الديكتاتوري المركزي والتوافق الديني الزائف المداهن.."، طالما أن الهدف المشترك هو المضي في الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، التي أشار إليها برادلي بأنها قد تعثرت في أواخر حكم مبارك.
وهكذا نجد أن المنهجية التي اعتمد عليها برادلي قريبة من تفاصيل معينة مثل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، التي أدت في النهاية لقيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني قبل حدوثها، بداية من الفساد الذي تفشى في كافة قطاعات الدولة، وصولاً إلى حلم جمال مبارك، نجل الرئيس الأسبق، بحكم مصر، لكنها أخذت منحى آخر عندما تحدث بإيجاز عن السياق التاريخي والاتجاهات الفكرية والعلاقات الدولية المصرية خلال الثلاثة العقود الماضية، التي كانت تتطلب الإشارة إلى الدوائر المعرفية والتعددية الثقافية، ودورها في السياق الاجتماعي السياسي للمنطقة العربية، ومدى أثرها وتأثيرها على الشأن المصري، غير أنها لا تكاد تخلو من إشارة إلى البعد الحضاري، عندما كان العنوان الفرعي للكتاب "أرض الفراعنة على شفا الثورة".
ولعلي أود أن أختتم هذا المقال النقدي بتساؤل أكاد أزعم أنه أقرب إلى مفارقة عجيبة، حول ماهية الواقع الحزبي والسياسي -التعددية الحزبية والسياسية- في مصر بعد الإطاحة بنظام الرئيس مرسي؟! تجنباً للوقوع في فوضى الفراغ، التي تسود، في الغالب، في المراحل الانتقالية، عندما يكون القديم قد شاخ، والجديد لم يكن قد ولد بعد.
وهنا ينتفي إمكان أي تحليل جدلي لتفاعلات القوى الاجتماعية والحركات الشعبية في نمط متجدد للدولة الوطنية يراجع مشكلاته التاريخية مع مفهوم المجتمع والسياسة على السواء، وعلاقتها بإشكالية الدولة والديمقراطية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.