قامشلي التي تكبر في اليوم خمس سنوات من الوحشة، وعشر مرات من الهمسِ المؤقّت، وعشرات العشرات من البيوتِ عمراً، لم تستسلم لقدر البندقية، أمام الحشود المضيئة، ولمّا بلغوها من جهة الغرب، من جهات الخيانة، جهة "العثمانيين، والفرنسيين"، وقفت بنسائها المعلومة من ثدي الأرض الذي جعل من أبنائها قرابين، نحروهم هدايا لأمّهاتهم، صوّروا رؤوسهم في طناجر الضغط ووضعوها ذكرى للموت.
كان الإخوة السريانيون والعرب يدفنون شهداءهم، وأحاديث القيَّافين تمرّ على قبور الكرد، بلغة التحقيق المسحورة، أيّتها القلوب الزّرقاء في حدائق المدينة، كحبّة "مكدوس" يا مماليك الزّمن الجديد في استدراج الغدر الممكن، وصناعة الموت في خزّاناتٍ حديديّة، يا أيّها القناص المختبئ فوق المنارة، دون أي اعتبارٍ لله، وأنت تضع قدمك اليسرى على الإرث المسروق، والسبابة على خيالك الذي يمشي بين الغرف للصيد، تتساقط هذه الأرواح هدية لرئيس مملكة الثعالب، كلّ هؤلاء مخطوطاتك الرّملية على عينِ الأرض الواحدة.
كانت نساء "قامشلو" يقدمنَ الدّجاجات، في ميزان الفراغ، ويبعْنَ قناني الهواء الزُّجاجيّة لشهدائهن في برادات الموت التي لا تميّز المعاني من الدّجاجات المخنوقة بلدغ العقارب والضّفادع المسحورة، بلاد الأفاعي، التي تأتي على غفلة؛ لتأكل اللحوم المثلجة على مسندة حي "الهلالية" وتخزّن جماجم الكرد المصلوبة على حيطان المدينة، تمرُّ على جواميس المدينة الراقدة على حليبها الأحمر، وقد وضعت نساء المدينة أثداءهن في أكياس نايلون شفاف جداً، تضربها هواء المدينة الرطب، ويبكي على أثرها حي "العنتريّة" تشرح لمقبرتها درس العلوم بالصّور، والمعاني، والدّموع، يا نساء المدينة الأحرار من تلعثمن بطرفِ خمارها، يا عيدان القصب، وأشجار الخابورِ، التي تبكي على "قامشلوكي" بلغتكِ، وأنت ترسلين مظاهر الموت، إلى حقد المنفى ابنكِ الذي يحمل اسم جاركِ الكرديّ، يسألكِ عن جيرانكِ وجلسات جاراتكِ الكرديّة، والسريانيّة، جلسات البابونج في سجّادات الصّلاة.
الكثير من الموت، الكثير من الحب، والدّموع الكثيرة الكثيرة، خطوط بيانية للوحش الذي يأكل الأطفال، ويترك أجفانهم هديّة للأصدقاء، الذين وشموا على زنودهم بالمخالب، ومناقير الدّجاجات، التي تصدر أصوات بكاءٍ تملأ المدينة، هُنا ساعات تأكل الزّمن بثوانيها المعقّدة، وترشُّ حبّات الأرز والزغاريد، وهناك صبايا بعمر أقلام الكحل لبسنَ الأبيض بلا تجانس، كان السؤال الجليدي الذي يخرج من أفواههنَّ منعطفاً إلى الهباء، وتظهر في أعينهنّ مصابيح الكاز الرطبة، ومدن من لسان المتاهة، ونوافذ القصص.
المدينة التي تقف على رجلٍ واحدة، تحمل تحت "إبطها" سلالاً من البيض "المفعوس" بعناية، كلّما أجفلوا النار على بيوتٍ طينية بنيت بريشة الربيع وأنياب الكلاب المسعورة على الضوء الذي يمشي بِاتجاه المرأة التي نامت في استغراقٍ منهك، لأبنائها الذين علّقوا على قلوبهم قناديل من القماش الأبيض، وأرسلوا أكبادهم في رسائل صوتيّة تعاني من التشويش، وأصوات المدافع التي تتسلّق سور المدينة عصَبَ هوائها، لا تترك مناقير طيور المدينة تلعب بسنابل الورد، وضحكات أطفال يُلوّحون لقبور آبائهم، فصارت الأعراس هدايا في علبٍ ملوّنة بالأحمر المقيت الدّاكن الدّافئ، هي أرجل بثلاثِ أصابع، وثلاثة مخالب من الحديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.