"العالم القديم انتهى، والجديد تأخَّر في الظهور، وما بين العتمة والنور تولد الوحوش" أنطونيو غرامشي.
مَن أشعل الحرب لا يطفئها، فقيصر أشعل روما، وشاهد فناءها ضاحكاً، قيصر ليس سياسياً يدّعي النبالة، قيصر هو صاحب الخزانة.
تزاحمت السلع بالأسواق العالمية، مخترقة كل سياج وقيد حدودي أو جمركي، في حين تكدست صفوف اللاجئين الهاربين من الفاشية العربية على حدود أوروبا، مظهر متناقض يكشف عن وجه العولمة السيئ، أو القبيح ربما، أنتج البشر نظاماً سياسياً عالمياً يسمح للبضائع بفرض ماهيتها الداعية إلى المزيد من الاستهلاك -المادي والروحي- على المجتمعات بكافة اختلافاتها وهوياتها الخاصة، في حين يعجز عن عبور الحدود إنسان هارب من جحيم القصف بطائرات باعها من قبل تجار البضائع الاستهلاكية ذاتها.
بُؤس السياسة
قامت الانتفاضة السورية ضد نظام الطاغية بشار الأسد، وما تبعها من اشتعال فتيل العنف المسلح والحرب الأهلية، ومن دون التزام بالقضايا الإقليمية المحدودة توسَّعت دائرة الحرب عملياً بضمِّها قطاعاتٍ عريضة من الإسلاميين الراديكاليين الباحثين عن رقعة شطرنج أخيرة تنقذ لعبتهم الخاسرة -لعدة أسباب- على المستوى السياسي والعسكري، ودولاً كثيرة تتصارع بيادقها باختلاف ألوانها على رقع تمتد إحداها إلى شبه جزيرة في أقصى الشرق (القرم)، وتمددت نظرياً بطرحها العديد من الأسئلة، دار أهمها حول: الإرهاب، والصلاحية الأخلاقية للديمقراطية الغربية، والعولمة، وحول ما يجوز تسميته بمتلازمة "الاستبداد مقابل الاستقرار" التي يعاني الغرب منها بشدة، غض الطرف عن أنظمة الممارسة الشمولية في الشرق الأوسط، التي دائماً ما فضَّلتها حكومات الغرب، وتمسكت بها ما دامت على قيد الحياة مؤهلة للحفاظ على الدوران الثابت لعجلة المصالح الاقتصادية والسياسية.
عصر بلا مرجعية، خلّف وراءه حطاماً تصنع ظلاله في ضوء اضطراب خافت أشباحاً تطارد شعارات السياسيين، وتقطع على شاشات التلفاز أعناق بشر مسالمين وتقتنص كرسي الحكم لحساب سماسرة ومهرجين مصابين بأقصى درجات الخبل، الديمقراطية الأميركية مثالاً، وهي التي تباهت دائماً بالمرونة والقدرة على صد الأخطار التي تحتضنها أذرع الفاشية، فشلت في احتواء معتوه أشقر الشعر يصرخ مؤيدوه: "لنجعل أميركا بيضاء مرة أخرى"، معتوه يحاول خلط الأوراق على الساحة السياسية الأميركية وتفنيدها من جديد، حارس الحانة الرخيصة "وول ستريت" يحاول جاهداً دحض العقيدة التي بدأت تتشكل في نفوس المواطنين الأميركيين على مدار أعوام ما بعد الأزمة المالية في 2008، "وول ستريت" تسرقكم علناً، مَن ساق الاقتصاد إلى الهاوية كوفئ من أموال دافعي الضرائب، بينما تشرد هؤلاء بعدما سُلبت منهم مساكنهم لصالح البنوك، فكان خاسر اللعبة الوحيد هو الذي لم يلعب قط.
حضر ترامب حاملاً شعلة الوطنية الأميركية الميتة إكلينيكياً، داعياً لبعث جديد لاقتصاد قومي يحفظ حلم الأميركيين الذي أفسدته -في رأيه- غوغائية الأجانب المهاجرين والمواطنين من أصول وديانات أخرى، وليست -بالنظر إلى ما يقول- غوغائية القطاع المالي الأميركي الطافح بالديون، ولا العقيدة الخارجية القديمة التي استنزفت العالم في حرب ضريرة على ما يراه "ترامب" عدوه الأول "الإرهاب"، والذي أذكته من قبل عقيدة البيت الأبيض بدعم كل ما يدعو للعنف من الاستبداد الشرق أوسطي، ومده بالمساعدات المالية والعسكرية التي تقوي عناصر البنى التحتية لمجتمعات الشرق الأوسط المقموع، المتمثلة في الفقر، والتشرد، والكبت، مثلث الإرهاب المنطقي للغاية.
يبصر ترامب عالمه "المكارثي" القديم قائماً، عالم الشبح الذي ينتاب أميركا، شبح الشيوعية، وقد استبدل بالإرهاب -الإسلامي كما يُدعي على الوجه الأخص- ويدعو لراديكالية إقصائية وردة فعل تشبه مثيلاتها من ردات فعل بوش (الأب والابن)، على عكس أوباما الذي سيخلف إرثاً من التحفظ والمرونة التي تتفاعل مع التطورات ببطء، كثيراً ما يدعو شخص أوباما نفسه للحرج، ما أدركه أوباما ولم يدركه ترامب أن اقتصاد بلاده قد أرهقته جولات الحرب، وتوغُّل الدائنين، وإرهاصات "وول ستريت" العائمة فوق بحر الإعلام الأميركي، وبسلطاتها شبه المطلقة داخل العاصمة.
أوباما ملَّ صداع الشرق الأوسط وعمائم شيوخه ورائحة نفطه، أميركا الآن تملك النفط الصخري، في حين يمتلك ترامب وداعموه مليارات تزحف عليها الديون.
حصان طروادة أم حصان داعش؟
في ظل تلك القتامة غزلت داعش خيوط عنف اجتذب إليه نول المقهورين، فنسج رقعة متسعة من اللعبة باتت تحت سطوتها، وبسطت نفوذها على مساحات واسعة من الأرض في فترة وجيزة، محفّزة بنزعة فطرية عقيدة اليمين الغربي، وخالطة لأوراق اليسار الذي تبعثرت خطواته من قبل في سبيل اتخاذ موقف حاسم من الوضع السوري على المستوى السياسي.
يؤمن البعض بأن داعش ما هي إلا علامة أميركية مسجلة بخاتم الاستخبارات المركزية، نظرية غير محسوبة، ولا مدعومة بأدلة منطقية، استيقظ أهل الموصل وأهل وسياسيو واشنطن تماماً كما استيقظ أهل طروادة ليجدوا المرتزقة داخل الأسوار يشعلون المدينة، علموا أن هناك حرباً لكنهم لم يُعدّوا لها.
ما لا نريد ربما إدراكه هو أن دلالة الكلمة "الولايات المتحدة" لم تعُد تشير إلى حكومات "نيكسونية" تدبر انقلاباً أو تدفع انهياراً اقتصادياً هنا أو هناك، إنما تدل على كتلة ضخمة من المؤسسات الاحتكارية التي تبيع السلاح لكلا الطرفين -داعش والجيش الأميركي- وهي التي تشتري النفط والآثار التي تمول داعش بها تلك الصفقات، هي التي لا تعترف سوى بمنطق الربح.
بين رفض الفاشية ورفض العالم
اكتسب اليمين هيكلاً -لا بأس به- فوق أنقاض الموصل، وعلى شواهد قبور ضحايا العمليات الإرهابية في أوروبا، ظل اليسار بوسطه وأقصاه حائراً، بين دعم الحكومات التي هي في معظمها يميني يضيق على اللاجئين الهاربين من جحيم بشار وداعش، وبين رهبة الارتداد إلى ما قبل الحضارة الحديثة التي ستُفنيها داعش إن هي ربحت النزاع.
اليسار الذي كان إلى وقت قريب في حالة رواج شعبي صاحبت احتجاجات عمالية طالت بريطانيا، وتجذرت بقوة في فرنسا، مع صعود شعبي ديمقراطي -إجرائي- في إسبانيا، حولته قضبان الحكومات الرأسمالية عن مساره بقوانين للطوارئ، وحملات رهاب إعلامي يشكل إدراكاً شعبوياً جديداً يصنع الخوف من السياسة، ومن العالم، ومن المصير المُقدر بالموت على يد الإرهاب، إن لم يتبع المواطن الأوروبي توجهات الحكومة، ويميل بدوره إلى اليمين الداعي لكراهية الأجانب الذين هم على استعداد دائم وفوري كما يصرح التلفاز -ضمنياً- للقتل.
أكثرية البريطانيين صوَّتوا لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، في حين تتجادل الأطراف حول اتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي، التي ستحول أوروبا إلى حظيرة خلفية للمؤسسات الأميركية الكبرى، تعبث فيها بالديون كما تشاء، وتخلق وعياً قد يسهم فيما بعد في دكِّ أساس دولة الرعاية الاجتماعية الأوروبية -الرفاه- التي يعاني الأميركيون في سبيل تحقيق، ولو جزء يسير منها، في حين يميل المواطنون الأوروبيون إلى الانغلاق داخلياً أكثر فأكثر إلى أي جانب يستريحون.
في شهر أبريل/نيسان الماضي دكَّت قوات النظام السوري -بمساندة الحليف الروسي- لثمانية أيام دون توقف، مدينة حلب، شاهد العالم الجريمة مباشرة من دون أن يفعل شيئاً لوقف عملية الجزر، وما زلنا هنا نتساءل عن جدوى النظام العالمي، وعن إمكانية، وليس عن ضرورة تغييره.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.