ملكون ملكون يقول الغائب الحاضر محمود درويش: "لا تكتب التاريخ شعراً".. لكن يا صديقنا نتساءل في حضرة غيابك.. فمن إذا سيكتبه؟!
لطالما تداولنا كالببغاوات أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، وبتكاسل استسلمنا لهذه الفكرة، وأصبحنا أسرى لها، وباتت نظرتنا مع مرور السنين مريبة ومنافقة لكل حدث تاريخي مر، وأضيفت لهذه الفكرة فكرة تكملها وهي "نظرية المؤامرة"، فتعمقت غربتنا عن تاريخ لا يمت لنا بصلة ونشكك بكل تفاصيله، ولا نعرف منه حفظاً إلا في امتحانات مادة التاريخ التي تصادر عقلنا وتمنحنا درجات مميزة لخيبتنا.
وبعد سنوات من الحرب السورية يحق لنا أن نتساءل: مَنْ الذي سيكتب تاريخ ما حدث ويحدث؟!
إذا كان السائد أن المنتصر سيكتب التاريخ فهذه كارثة كبرى، على الرغم من تطور وسائل الإعلام فإن معاناة السوريين لا تزال قائمة مع الحقيقة المغيّبة، فلا تجد من يتفق مع الآخر على حدث مهما كان صغيراً أو كبيراً، بل سلسلة من الاتهامات والاتهامات المتبادلة، والصخب الإعلامي، والتضليل والتضليل المضاد الذي يرتوي من دماء الناس ووجع شتاتهم.
وإذا كان القتلة سيكتبون التاريخ فإننا أمام تاريخ مخضب بالدماء منذ مئات السنين.
وإذا كان المحللون السياسيون والاستراتيجيون والعسكريون سيكتبون التاريخ، فإنه سيكون خالياً من المصداقية؛ لأن هؤلاء كانوا سلعة رخيصة في سوق الشاشات التلفزيونية البرّاقة.
وإذا كان تجار الحرب سيكتبون التاريخ، فإن سطوره ستكون معروضة في مزاد علني ليغرفوا منها أموالاً جديدة بعد أن غرفوا من دمنا الكثير الكثير.
وفيما إذا لو "وهذه ثلاث أدوات شرط غير جازمة" كتبه مؤرخون فلن نتفاءل كثيراً؛ لأن تجاربنا السابقة مع المؤرخين لا توحي بالطمأنينة.
لذا.. نعود ونتساءل هل يكتب الشعراء التاريخ؟
أعتقد أن عقوداً من الزمن مرت فقد فيها الأدباء والشعراء حظوتهم ومكانتهم لدى الناس، لأكثر من سبب، فالتشويه المتعمد لصورة المثقف من قِبل وسائل الإعلام والأعمال الدرامية ليبدو كشخص بوهيمي غير متوازن نفسياً ماجن، وغالباً ما يكون في الدراما من مدّعي الكتابة وبلا موهبة، وكذلك الضغط عليه من قِبل وسائل الإعلام ليكتب ضمن الخط العام للإعلام الرسمي وإلا فإنه سيجوع، علماً أنهم حتى في هذا المجال لا يقدمون للكاتب سوى الفتات.
إضافة لذلك فإن الكثير من الشعراء والكتّاب حصروا كتاباتهم بنخبة لا تتقن إلا التأفف وتشريح النصوص متكأة على مركبات نقصها، فأصبح الكثير من الكتّاب وكتبهم بعيدين عن نبض الشارع، فتشعر أنهم يكتبون عن عالم خيالي وأناس من كوكب آخر.
لكن بالمقابل أغلب ما كتب منذ ست سنوات كان مميزاً وجريئاً وصادقاً ومعبّراً عن وجع الناس وألمهم، عبر رصد حكايات الوجع السوري في الداخل والخارج، و"ربما" يكون مرجعاً يوماً ما لفك طلاسم ما حدث ويحدث، ويعيد إلى "حدٍ ما" ترتيب الأحداث وفق سياق زمني يكون الإنسان محور همّه واهتمامه.
أعلمُ جيداً أن الخيبة في ذروتها، وأن ما ورد في هذا المقال سيلقى استهجاناً؛ لأن الناس أصابهم الملل من الكلام، ولكن فقط أحيلهم كما أحيلُ نفسي لما قاله محمود درويش: "لا تكتبِ التاريخَ شعراً، فالسلاحُ هُوَ المؤرِّخ. والمؤرّخ لا يُصَابُ برعشة الحُمَّى إذا سَمَّى ضحاياه. والتاريخ يوميّاتُ أسلحة مُدَوَّنةٌ على أَجسادنا"… حينها سنعلم كم نحنُ مُغيّبون؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.