كثيرةٌ هي الأفكار التي تدور في رأسي عن دمشق.. تتزاحم في جزء ما من عقلي.. تعبثُ بي.. وكأنها تعذبني.. تريد أن تخرجَ للدنيا ولا تريد في آن.. وكثيرةٌ هي الأحداث التي مرّت على كلّ إنسان عاش فيها أو تربى بين أحيائها..
لا يخلو بيتٌ من حكاية.. ولا تخلو "حارة" من قصة ولا مدينة من حادثة.. خاصة في ظل ثورة أرادت لشعب أن ينالَ كرامة حلم بها على مدى سنوات.. أعودُ بذاكرتي إلى الوراء قليلاً.. إلى خمسِ سنوات مضتْ.. مع بدايةِ الثورة وانطلاقةِ الشّرارة الأولى لها..
كانَ لدمشق وضعٌ أمنيّ خاص.. عمليات التفتيش في ازدياد.. على الطرقات وفي وسائل النقل.. وأمام الحواجز العسكرية.. وفي الجامعات..
وحيثُ كنتُ دائماً في مكتبة الأسد.. أذكر أنّني التقيت أستاذاً جزائرياً جاء من أجل رسالة الدكتوراه الخاصة به.. أخبرني أنه غادر دمشق فيما بعد مُرغماً بعد أن أخبره صديق له أنّ مَنْ بالمكتبة جاءوا أثناء غيابه للطاولة التي كان يجلسُ عليها.. وقاموا بتفتيشِ حاسوبه الخاص.. لأنّ أحداً ما أخبرهم أنه كان يستمعُ لأغنية سميح شقير الشّهيرة آنذاك "يا حيف"..
بين ليلةٍ وضُحاها.. جمعَ أغراضَه وغادر دمشق.. خوفاً من أن تتكرر معه قصة الباحث الجزائري الذي جاء في زيارة علمية لسوريا منذ سنين و اختفى فجأة.. لتعلم عائلته فيما بعد أنه في سجون النظام السوري وليخرج بعد عشرين سنة دون تهمة محددة..
مشهدٌ مأساويّ كهذا.. يدفعني للاستشهاد بحادثة أخرى جرتْ في المكان نفسه.. يروي صاحبها ما حدث له بحزن وأسى، وحرقة قلب، وملامح مرتبكة.. كان يبدو شارداً، لحيتُه طالتْ عمّا كانت عليه من قبل، وثيابه تبدو بسيطة بالنسبة لشاب كان يسابق "الموضة" في أحدث صيحاتها..
هو للآن لم يصدّق أنّه قضى ثلاثةَ أشهر في سجون النظام.. و أنّ هذه الثلاثةَ أشهر لم تكن سوى درس صغير لأنّه اعترض على سياسة المكتبة التي كان يُطالع فيها ويبحث من أجل رسالة الماجستير!
كان الأمرُ سخيفاً بالنسبة للمدة التي قضاها.. فاعتراضُك على إهمالِ دورك أثناء الطباعة.. على حساب فتاة من "جماعة" النظام.. ليس بأمرٍ يستحق السجن لمدة ثلاثة أشهر مع فصل مؤقت من المكتبة.. وتهديده بالفصل النهائي في حال قام بخطأ آخر..
لأن شر البلية ما يضحك، أصبحنا نردّد مثل هذه الحكايات ونضحكُ سرّا بحزن حامدينَ الله أنها جاءت سليمة.. رغم حجم الخسارات التي حدثت، خسارات بحجم وطن كسوريا
لا تزالُ كلمات مدير المكتبة وضحكته الماكرة تلك ترنّ في أذنيه:
"أحمد الله أنّها مرّت على خير واكتفينا بالثلاثة أشهر"! ليعلمَ فيما بعد أنها مجرد تصفية حسابات، هدفها الإيقاع بكل من يعترض في دولة كانت تتذوق طعم الحرية من جديد..
وليكتشف أيضا أن مدير المكتبة وبعض موظفيها.. كانوا يعملون مع بداية الثورة وفي يوم الجمعة.. كانوا يعملون كـ"شبيحة".. يحملون العصي ويضربون المحتجين بعد الصلاة في "الميدان" بقلب دمشق..
لم يكن له من سبيل للتخلص من أفكاره تلك.. سوى سحب أوراقه من جامعة دمشق.. والتفكير بالفرار من بلد لم يعد للاعتراض فيه من قيمة..
تتشابه قصص الظلم في سجون هذا النظام.. أو أكادُ أجزم أنّ كُلّ مَن دخل هذا السجن مظلوم.. لفرطِ ما تسمع وترى من حكايات يشيبُ لها شعر الرأس..
ولأنّ شر البليّة ما يُضحك.. أصبحنا نردّد مثل هذه الحكايات ونضحكُ سرّا بحزن حامدينَ الله أنها جاءت سليمة.. رغم حجم الخسارات التي حدثت.. خسارات بحجم وطنٍ كَسوريا..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.