لا يمكن فهم السياسة إلا أنها بنت "المصلحة" بكل أشكالها، فيمكن أن تحالف عدوك لضرب عدوآخر، أوتُوازِن بين عدة أفعال للوصول إلى هدفك، وهذا الفعل عكس الدعوة والتي هي بنت "الحقيقة" أي تقول الحقيقة، ولوكانت على حساب أرواح وكوادر أعضائها، بل تعتز بذلك مفاخِرةً به الأجيال ومذكِّرة بما فعله الآباء والقادة الاوائل.
هذه الثنائية استدعيت على عجل بعد ثورات الربيع العربي، وبعد ظهور الأحزاب السياسية والأذرع التنظيمية للحركات الإسلامية، والتي طالما تكلمت عن مناصرة الحق وعدم المهادنة والمداهنة، فوقفت كما يقف من أبصر من بعد عمي، لترى أن الأمر مختلف هنا تنظر من داخل السينما، وليس من شاشة التلفاز هنا ترى إسرائيل وأميركا، إيران وروسيا الإسلامي السلفي والصوفي اليساري والمدني السني والشيعي. والأزمة الكبرى حينما تكون في بلد فيه كل ما سبق لا سمح الله، كيف سنفهم الأمور كيف سنعقد اتفاقاتنا؟ أو بالأحرى كيف سنتفق مع أفكارنا وذواتنا؟
دعني أخبرك بقصة يا صديق، في بدايات احتلال العراق التقى طارق الهاشمي، وكان حين ذاك الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي "و هوالحزب السني الوحيد المنظم بعد 2003" بـ بوش في واشنطن، فجن جنون أبناء الحركة الإسلامية في العراق والعالم، وكان السؤال الأهم كيف تمدون أيديكم لمن يحتلكم؟ كيف تتحدثون معه بلغة الكلام؟ أما كان الأولى التعاطي معه بالرصاص؟
ولعل من أولى الاستفسارات التي أُرسلت إليه كان استفساراً لشاب ناشئ عمره لا يتجاوز الـ12 سنة، هل ما فعلته هو تنصل من المبادئ والقيم التي تربينا عليها؟ وهل هذه خيانة لقضيتنا؟
في هذه الأثناء كانت الأحزاب الشيعية الأخرى تدخل في كل المؤسسات الأميركية بكامل قوتها من ضغط سياسي إلى صناعة لوبيات وتبادل اتفاقات، انتهاءً بالإمضاء على ملفات كل هذا مقابل استحصال الرضى الأميركي بالسيطرة على العراق.
أما اليوم فيتمنى الجمهور السني عودة القوات الأميركية من جديد لحمايتها من التحديات الواقعة على أرضه، للأسف وأنا أروي هذه القصة فإني إحدى ضحاياها، فأنا من أرسل تلك الرسالة مطالباً بها السيد الهاشمي بتوضيح موقفه، كنتُ ضحية لأفكار سُكبتْ في رؤوسنا فلم تعد ترينا طريق الصواب، لكن الأزمة الحقيقية ليست في الشاب الناشئ، بل في انتشار هذه الأفكار بين قادة الحركات الإسلامية وشيوخها.
هذه الأفكار قد تعد العقبة الأولى أمام الحركات الإسلامية التي وضعها الوقت في فارق كبير بين أفكارها المصنوعة في أواسط القرن الماضي وتدفق المسؤوليات الواقع عليها اليوم، فأصبحت تتجاوز الفكر للحاق بالمركب فهي كمن يسقط سقوطاً حراً من الطائرة ناسياً مظلته، أو كمن يحمل في طياته طيارة قديمة لا تقوى على الإقلاع. وبين هذه وتلك تدور مسؤولية مفكري ومنظري الحركة الإسلامية في صناعة منهج واسع لا يفهم القرآن والسنة والتاريخ على أنه قالب ننضبط به، بل نهر يمكن التعامل معه وتطويعة، وإخراج الرأي العام من ثنائية عقلية خطيرة "إما نصر كفتح مكة أو ابتلاء كعام الحزن" بل فتح المدارك لشيء كصلح الحديبية.
والمشكلة الحقيقية أن دخول السياسة بهذه العقليات لن يؤدي إلى نزاع صغير أو إغلاق جامع أو تنفير مجموعة من المصليين، كما قد يحدث في أحد المساجد، بل سيؤدي إلى فقدان الأرض وسكب الدماء! فمتى يبدأ شيوخ الحركات الإسلامية يفهمون أن ترك الصلاة ليس كسكب دماء من وثق بهم؟ وأن عقلية الجحور ستفشل في القصور، أو أن إمكاناتهم هي على نهج أبي ذر وليس عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضوان الله عليهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.