بعد غياب ثلاث سنوات عنها عدت.. شهران بانتظار سماع أو رؤية ذاك الوحش الطائر.. جدتي: "يا عين ستك لسَّه ما جربت الطيارة".. أضحك من كلماتها والترقب يعكر صفوها، تباً لها من ضحكات.
شهران أقلب صفحات السماء بحثاً عنه، وفي ليلة لا يقتحم بردها إلا دب قطبي -نفذ- فعل له صداه في الأذنين أسمعه للمرة الأولى، همت ورفاق السهر على وجوهنا من شدة الصوت، أنا قدم للأمام وأخرى للخلف، الجميع يصرخ "الطيار في الجو دوران آخذاً المحور ذاته.. مكان التنفيذ انتبه"، عدنا لنلتجئ بجدران الغرفة المرتبكة، مرة أخرى -نفذ- ومريض القلب يكفيه أن يسمع صوت صفير الصاروخ ليقع طريح القبر، ألملم ساقَي منطلقاً للخارج شاهداً كيف يحمل أصحاب القبعات البيض من فتك به الصارخ على الأغطية والستائر حتى لا بفقد أطرافه العالقة ببقايا جلد أوهن من خيط العنكبوت.
الوجوه رغم معرفتي بها غريبة وكأني أحضر حفلاً تنكر فيه الأخ من أخيه، أعض على هاتفي النقال بالنواجذ من هول ما رأت عيناي وهو ما لم تستطع كاميرا هاتفي تصديقه، كانت الغارة الأولى للطائرات الروسية على قريتي الوادعة في الشمال السوري.
مضت أيام ولسوء الحظ حضرت الطائرة وأنا في زيارة لأخي، بينما ألاعب طفلته التي لم تتجاوز ربيعها الثاني فجأة أفلتت الصغيرة من يدي، ليست قوة الصوت لا بل إرادة السجين على الإفلات أجبرت يدي على إطلاق سراح ابنة أخي، ركضت "ماسة" باتجاه أمها مرددةً "ماما، طرارة.. طرارة" في إشارة منها لقدوم الطائرة، إلا أنها لم تكن الضحية بل كان الدور في هذه المرة على طفلة أخرى في قرية مجاورة.
وفي ساعة متأخرة من ليل يوم آخر زارنا الطيران المروحي، صوت مختلف يهوي من السماء تلاه صوت أعنف نجم عن وصول المقذوف للأرض، وبعد انقضاء زيارة الطيار ذهبت باتجاه منزل المُضيف لأجد صديقاً لي يخبرني بأن الغارة انتهت بسلام، سألته ما نوع القصف؟ أجابني: "ألغام بحرية"، يقترب مني صديقي قائلاً: "سكوت يا أبو محمود الحمد لله إنه ضربنا بالألغام البحرية بدل البراميل، لو برميل كانت انهدت الحارة"، يحمدون الله أن النظام قصفهم بالألغام البحرية.. تصور يرعاك الله.
مرة أخرى مع أصدقاء السهر على سطح منزل ناءٍ حان موعد الزيارة، بدأ الطيران يكثف طلعاته شيئاً فشيئاً، الأمر الذي دفعنا لمغادرة المكان وعودة كل منا إلى منزله لينتظر حتفه منفرداً ويتمكن الناجون من زيارة قبره وغرس الريحان وقراءة ما تيسر له من القرآن.
وفي طريق العودة اشتعل ضوء قوي ثم انطفأ، صديقي: "والله ضو هالنيون قوي"، التزمت الصمت ولم أتجرأ على اتهام الطائرة بالقصف خوفاً من انتقامها فما زالت الزيارة قائمة، وبعد وصولي للبيت فتحت هاتفي الجوال لأتابع الأخبار وإذا بالنظام يقصف مدينة إدلب بالفوسفور، تمنيت حينها أن يعود بي الزمان خمس دقائق للوراء لأضرب صديقي "طيارة" على رقبته قائلاً له: "هذا مو ضو نيون يا فهمان هذا النظام عم يضربنا بالفوسفور".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.