صدمتني مواقف كثيرة خلال رحلتي إلى ألمانيا وفيها، وسمعت الكثير من حكايات السوريين، وعاينتهم بمواقف مختلفة، ورأيتهم خلالها يجهدون أنفسهم بالانسلاخ، ذاك الانسلاخ القاتل عن كل شيء، عن أنفسهم، ووطنهم، وعاداتهم، ولغتهم، ودينهم، حتى بطريقة ضحكهم وبكائهم وانفعالاتهم.
وكنت أعتقد قبل هذا أن زمن الخوف من نظام الأسد المجرم قد انتهى؛ لأتفاجأ بأنهم حملوا خوفهم معهم "بالبلمات" وقوارب الموت واجتازوا به البحار والدول؛ ليبقى رعب العصابة الأسدية يقيد السوريين في المنفى البعيد.
حقيقة صعبة لمستها لأشهر تتمثل بهروب السوريين مني عندما أتحدث عن جرائم نظام الأسد والثورة والحرية وإسقاط النظام.. أشخاص لم يرموا عليَّ السلام بعدها، وآخرون نصحوني أن أصمت عن هذا.. عدا عن آلاف من قطيع "كنا عايشين"، و"خربتم سوريا بحريتكم"، لأشعر أن طلب الحرية جريمة تلاحقنا لآخر الأرض.
لكن وبعد فترة أصبح الأمر اعتيادياً، أن أتكلم لشخص يبدأ حديثه بشتم الحرية والثوار والدفاع عن المجرم؛ ليتبين لي أنه إنسان يقف ضد الطاغية الأسد، وعانى منه بفقد أخ أو أكثر، وغالباً كنت أرجع السبب في هذا للأعداد الكبيرة للشبيحة هنا، وخوف المدنيين منهم، وما يشاع بين اللاجئين عن العلاقة بين الحكومة الألمانية ونظام الأسد القاتل، وطريقة تعاطي الإعلام الغربي الصامت عن جرائم الأسد واستخدامه للكيماوي والعمل على لصق التهم بالشعب الذي ثار لحريته، والأهم من ذلك حصول بعض التفجيرات في عدة مدن أوروبية، وتوقع حصول المزيد حسب ما صرح به "أحمد حسون"، مفتي نظام الأسد، وما أثاره من خوف وتحريض ضد المسلمين في تلك الدول، وربط تلك الجرائم بهم تحت مسمى الإرهاب.
وما بين الخوف من نظام الشبيحة ويده المطلقة، إلى التبرير ودفع التهم، فُرض على السوريين واقع كريه كله ذل.
لكن هذا لا يعني أن تنزع امرأة الحجاب، أو تخرج فتاة وصلت سن البلوغ بالشورت، وأن يسكر شاب طوال اليوم، وهي أمور ما كان لهم أن يفعلوها ببلدهم؛ ليثبتوا للألمان انفتاحهم واندماجهم بالمجتمع الجديد، مخطئ جداً من فهم الاندماج من هذا الباب، ولن أمر هنا للحديث عن جماهير الإنسانية المزيفة التي تندب عند حصول عطل فني بحمام بأوروبا، وتضحك وهي تشاهد قتل الأطفال والدمار في الوطن.
وهنا أعتقد أن السبب في هذا يرجع للتدجين وزرع الخوف الذي مارسه البعث عقوداً خلال حكمه للبلد، وخوف السوريين من الكلام والتعبير، أو ربما الإحساس بالمؤامرة والخذلان، لكن كل هذا لا يفرض المسير إلى الضياع وفقدان الهوية.
لم أسمع يوماً أن الشرطة اعتقلت شخصاً؛ لأنه تحدث عن جرائم الأسد بحق السوريين! تكلمت عن جرائم الاحتلال العلوي في المدرسة والمخفر والطريق والمحكمة وأنشط دون أن يمنعني أحد، فلماذا كل هذا الخوف من المسموح؟!
الأتراك مثال جيد لنفهم معنى النجاح والتأقلم مع المحيط والدراسة والعمل، مع احتفاظهم بهويتهم التركية ولغتهم وعاداتهم كأمور مقدسة يمنع المساس بها.. يسيرون في الحياة الجديدة دون أن تنسيهم أصلهم.
مهلاً أيها السوري مهلاً، أنت لست مطالباً بالندب والاعتذار عند كل مشكلة، فأنت لا تتبع لأحد! اعرف نفسك وتوقف عن الهروب والضياع بلا هدف، لا تهرب من حقيقتك بأنك الضحية بين الجميع، وأن الأسد دمرك وأنت لم تؤذ أحداً، فلست مطالب بالاعتذار عن أفعال الغير!!
وبدل مهانة التخفي فلتواجه حقيقتك، وليعرف العالم من حولك وجعك ومعاناتك وقضيتك العادلة وحبك للسلام والحرية والعدالة، وكيف دمر الأسد حياتك بالقتل والقصف والتعذيب، تكلم ولا تخفِ من شيئاً.
ضياعكم هو الخسارة الكبرى، وأصعب من كل خسارة على الأرض، ألا يكفيكم أنكم صرتم سكان الشتات! وصرتم بصمتكم الأضعف والأذل مطالبين بكل شيء ومتهمين بكل شيء؛ لأنكم كنتم جبناء عن قول الحقيقة والتعريف بها، صمتم عمن قتلكم واعتقلكم ودمر بيوتكم حتى صار يلاحقكم ويتهمكم في المنفى! وأنتم تطبلون له وتقولون كذباً إنها مؤامرة خارجية وإن أردوغان وقطر دمرا البلد.
تكذبون، تكذبون وأنتم الضحية وتخافون أن تذكروا الحقيقة وأنتم خلف البحار، تعلمون أن من هجركم هم شبيحة النظام المجرم وطائفته وطيرانه وحلفاؤه من ميليشيات حزب الله وإيران وروسيا، وتلقون اللوم هنا وهناك.
هل أعجبكم ضياع الفلسطينيين؟ حتى هذا لن تحصلوا عليه بصمتكم، فالفلسطينيون لم يصمتوا يوماً عن تعريف العالم بقضيتهم، رغم أنه لم يحصل بحقهم عشر ما فعله الأسد بكم، أنتم لا تشبهون الفلسطينيين أبداً، فكل شيء مختلف والدول العربية والعالمية الكثيرة التي استقبلتهم ووقفت معهم أو جنَّستهم ترفضكم اليوم وبشدة، ولا أحد عنده حرج أو معارضة لموتكم الجماعي!
فحافظوا على هويتكم، فإن أصبحتم أقلية في سوريا فلا تكونوا لا شيء في دول الاغتراب، اثبتوا أنفسكم بالتفوق بالعلم والعمل، ولا تركنوا لقطيع "كنا عايشين" فالزمان يدوس كل مَن قال "مااااااع".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.