قبل أكثر من (40) عاماً، في أشدّ عنفوان الحرب التي قادها الأميركان على فيتنام، بالضبط في 8 يونيو/حزيران 1972م التقط المصوّر الصحفي "نيك أوت" صورة حصل بسببها على جائزة Pullitzer عام 1973 ثم ظلّت هذه الصورة من بين أشهر الصور التاريخية المؤثرة، ويجري الاستشهاد بها وذكرها حتى الآن.
الصورة الشهيرة المقصودة هي لطفلة النابالم، الطفلة الفيتنامية "كيم فوك" التي ظهرت في الصورة وهي تهرول عارية تماماً وهي تصرخ بعد أن أحرقت النيران جسدها ومزقت ملابسها وسلخت جلدها بقنابل النابالم المحرمة دولياً التي قصفتها القوات الأميركية على قريتها "تراج بانج". كان المصور الصحفي يحاول تسجيل فيلم عن بشاعة هذه الحرب لكنه يقول في الكتاب الذي نشرته "كيم فوك" فيما بعد وحمِل عنوان "الفتاة التي في الصورة: "The Girl in the Picture" إنه فقد اللقطة العظيمة، وحينما وجد الفتاة أمامه أراد أن يأخذ لها أكثر من لقطة، ولكنه عندما وجدها تصرخ: "إنها حارقة جداً"، قرر أنه لا يريد أن يأخذ صوراً بعد الآن، كل ما أراده وقتها أن يُلبي لها طلبها، أن يأتي لها بالماء.
أمام فداحة المشهد؛ ترك المصور كاميرته وحمل الطفلة مغشياً عليها إلى المستشفى لتوضع ضمن (المتوقع وفاتهم). أجريت لها (17) عملية جراحية على مدار عامين استطاعت بعدها أن تعود إلى الحياة بآلامها وتشوّهاتها.
لكن الصورة التي التقطها الصحفي "نيك أوت" لهذه الطفلة وهي تهرول عارية، تصرخ من الألم قد انتشرت في اليوم التالي في جميع أنحاء العالم تحت عناوين (ضحايا الحروب الأبرياء)، حيث اشتعلت -آنذاك- المظاهرات في كل من فيتنام والولايات المتحدة الأميركية ضد الحرب، وكانت هذه الصورة أحد أهم أسباب وقف هذه الحرب التي قيل إنها خلّفت من الفيتناميين مليوناً ومائة ألف قتيل، وثلاثة ملايين جريح، و13 مليون لاجئ، أما خسائر الأميركيين فتقدر بـ57522 قتيلاً.
صورة مروّعة ومؤثرة حرّكت مشاعر العالم ونقلت لهم حجم المعاناة وفظاعة مشاهد الحرب، لم يستطِع الناس تحمّل استمرار هذه الحرب، وبهذه المخرجات التي تعتدي على حق الحياة لمثل هؤلاء الأطفال من دون يكون لهم أي دخل أو سبب في اشتعال تلك الحروب، وفعلاً كانت صورة "كيم فوك" هي المحرّك الأساسي لتوقف حرب فيتنام.
غير أن العالم اليوم بعد أن تطوّرت وسائل الإعلام والاتصال، وأصبح الكون كما القرية الواحدة، يمكن أن تُرى كوارثه وحروبه وفواجعه بدون حواجز، بل يمكن أن تُبث على الهواء مباشرة؛ لم تعد تؤثر فيه مثل صورة طفلة النابالم "كيم فوك"؛ حيث باتت ذاكرة الإعلام تحتفظ بمشاهد أكثر حزناً ومأساوية وتختزن ذاكرة الشعوب صوراً أشدّ فظاعة لأطفال يحملون الألم ويصرخون وسط الدمار ويستنجدون من الموت، تتناثر أشلاؤهم وتسيل دماؤهم أمام مرأى ومسمع من فضائيات ووكالات الأنباء والصحف، ويراها الجميع على شاشات تليفزيوناتهم وهواتفهم فلا يتحرّك ساكن، ولا ينتفض الضمير الإنساني، ولا تشتعل المظاهرات احتجاجاً واستنكاراً لهذه الحرب الملعونة.
قبل بضعة أيام تناقلت شعوب العالم صورة الطفل السوري عمران دقنيش وانتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مذيعة قناة الـCNN الأميركية Kate Bolduan أثناء قراءتها نشرة الأخبار وعرضها لصورة هذا الطفل السوري الذي أُنقذ من تحت الأنقاض في مدينة حلب التي تتعرض لقصف من قبل الطيران السوري والروسي؛ حيث لم تتمالك المذيعة نفسها إبّان قراءتها للخبر فبكت تأثراً بهذا المشهد، وقالت والتأثر بادٍ على وجهها وصوتها: اليوم في أميركا نصل نهاية الصيف وبينما الأطفال هنا يستمتعون بحرية الأيام الأخيرة من الصيف أو يذهبون إلى المدرسة لأول مرة نتحدث هنا عن أطفال خارقين نتحدث عن أماكن يلعب فيها الأطفال، لكن في أماكن أخرى من العالم يموت الأطفال، ينجون من الموت، وفي العديد من الحالات يكونون بين الموت والنجاة بحسب الناشطين، هذا عمران كان مع أمه وأبيه وأخته وأخيه منزلهم قصف بضربة جوية من قام بالقصف، لا نعرف لكنه سُحب مع عائلته من تحت بقايا منزلهم بعد أن دفنوا تحت أنقاضه.
وبالطبع صورة أو فيديو الطفل عمران ليست بالأمر الجديد في أيامنا وعصرنا الأنكد، وليس من المتوقع أن يكون لها ذات تأثير صورة طفلة النابالم الفيتنامية، لن توقف صورة عمران الحرب السورية مثلما أوقفت صورة "كيم فوك" نيران حرب فيتنام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.