قمع الحريّة باسم التحرّر: عنصريّة العلمانيّة المحوّرة في فرنسا

ما يجري عمليّاً هو تحوير العلمانيّة وتسخيرها لصراع الهويّات، لا سيّما في محاولة لإيجاد كبش محرقة لتحميله مسؤولية الهجمات الإرهابية والعجز عن تفادي وقوعها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/29 الساعة 05:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/29 الساعة 05:13 بتوقيت غرينتش

"لكلّ شخص الحقّ في حريّة التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحقّ حريّة تغيير ديانته أو عقيدته، وحريّة الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة".
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – المادة 18

بوركيني أم بدون بوركيني؟ هذا هو السؤال.

لو كان شكسبير ما زال حيّاً، لربّما كان افتتح عملاً كوميديّاً تهكّميّاً بهذا السؤال الذي أضحى فجأة وجوديّاً عند كثير من الفرنسيّين.

طبعاً ليس المقصود هنا بهذا المصطلح الغريب العجيب (بوركيني) اللباس التقليدي في دولة بوركينافاسو الإفريقيّة، حتّى لو كان هذا المدلول اللغوي هو الأصحّ صرفاً، هو اسم مركّب تركيباً مزجيّاً بين "برقع" (أي نقاب) و"بيكيني"، وذلك للدلالة على لباس البحر الذي يغطّي كامل الجسم -أو ما شاكله من ألبسة- والذي ترتديه بعض النساء المسلمات.

وقد قام بعض رؤساء البلديات بمنع ارتداء البوركيني على الشواطئ العامّة الفرنسيّة الخاضعة لصلاحيّتهم المكانيّة. ويتحجّج الداعمون لهذه القرارات والمدافعون عن هذا الحظر بمجموعة من الذرائع، كتعارض هذا اللباس مع مبدأ العلمانيّة أو مع الانتظام العامّ، أو مع الآداب العامّة، أو مع تحرّر المرأة، أو حتّى مع الإسلام نفسه!
فلنبدأ بالتذكير بأنّه لا يمكننا أن نبني الموقف المبدئي من لباس البوركيني على اعتبارات شخصيّة كالموضة والذوق، إذ إن الموضوعيّة تشكّل السمة الأساسيّة لأي نصّ حقوقي ملزم (قانون، قرار إداري.. إلخ). فالقاعدة الحقوقيّة لا تُفصّل على قياس أشخاص أو بناء على أذواق فرديّة أو مزاج خاصّ، بل تُسنّ بناء على معايير موضوعيّة؛ لكي تطبّق دون تفريق على جميع المقيمين في بلد معيّن، وعلى اختلاف أذواقهم وأنماط حياتهم، وإلّا كانت قاعدة اعتباطيّة.

1) ذريعة أن لا مسوّغ في الإسلام لارتداء البوركيني

يقوم كثير من السياسيّين الفرنسيّين الذين يدّعون الدفاع عن العلمانيّة وعن حقوق المرأة، كما بعض مثقّفي الشاشات المسلمين -وأغلبهم من أصول عربيّة- الذين يحترفون التزلّف والتصنّع النخبوي وجلد الذات وتقريع أبناء جلدتهم في عنتريات لفظيّة مضحكة مبكية، يقوم كلا الصنفين بتنصيب أنفسهم مفتين وعلماء دين للجزم -بكثير من الثقة بالنفس والعجرفة والافتئات- بأنّ لا شيء في الإسلام يدعو المسلمات إلى ارتداء البوركيني، أو حتّى الحجاب.

بغضّ النظر عمّا إذا كانوا محقّين في ذلك الرأي أم لا، فهذا النقاش هو هنا في الأساس نقاش خاطئ وينطوي على تناقض كبير.

ففي دولة يقوم جوهر نظامها الجمهوري وفلسفة دستورها على مبدأ العلمانيّة -أي على فصل الدين عن الدولة- كفرنسا، لا مجال مبدئيّاً للدخول في نقاشات دينيّة أو ديباجات فقهيّة أو فتاوى من هذا النوع، وذلك على الرغم من تنوّع هذه النقاشات وأهميّتها النظريّة.

من الواجب التذكير بأنّ مبدأ العلمانيّة في فرنسا، كما كرّسه قانون فصل الكنائس (بمعنى الديانات) عن الدولة الصادر سنة 1905، يضمن الحياد الديني للدولة التي بموجبه لا تعترف ولا تموّل أي معتقد (المادّة 2). بكلام آخر، من غير الجائز أن يستند أي تشريع أو قرار على الأراضي الفرنسيّة إلى معتقد ديني معيّن -بما في ذلك الإسلام- أكان ذلك لمنع ممارسات معيّنة أو للسماح بها.

لذلك، وعملاً بمبدأ العلمانيّة كما جرى تعريفه، ليس فقط من غير الضروري، بل من غير المقبول أصلاً الغوص في جدل لمعرفة إن كان يجب أم لا -من وجهة نظر الشرع الإسلامي- أن ترتدي النساء المسلمات هذا النوع من اللباس إذا أردن الاستحمام في البحر في فرنسا، أو بالمقابل إن كان هذا اللباس كافياً شرعا لتخويل المرأة المسلمة بأن تمارس السباحة على شواطئ مختلطة.

2) ذريعة حظر التعبير عن المعتقد الديني في الأماكن العامّة
يدّعي المدافعون عن منع البوركيني أنّ العلمانية تسمح بالتعبير عن المعتقد الديني في الأماكن الخاصة كالمنزل حصراً، ولكنّها تمنع هذا التعبير في الأماكن العامّة، ينطوي هذا القول على كثير من عدم النزاهة العلميّة، لا بل على تحوير متعمّد للعلمانيّة.

فالعلمانية بمفهومها الأصلي -إن جاز التعبير- تضمن حريّة المعتقد وحريّة ممارسة الشعائر الدينية للأشخاص بما لا يتنافى والانتظام العامّ (المادّة الأولى من قانون 1905 ).

وقد جاءت المادّة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان -حتّى ولو لم يكن له قوّة إلزاميّة للدول- وخصوصاً المادّة 9 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الملزمة لفرنسا، لتشدّد على ضمان الحريّات الدينيّة التي تشمل "حرية تغيير الدين أو العقيدة، وحرية إعلان الدين أو العقيدة بإقامة الشعائر والتعليم والممارسة والرعاية، سواء على انفراد أو بالاجتماع مع آخرين، بصفة علنية أو في نطاق خاص" (المادّة 9 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان).
طبعاً، يقوم البعض بالتذرّع بقانونين جديدين نسبيّاً للقول بأنّ العلمانيّة تمنع التعبير عن المعتقد في الأماكن العامّة، الأول هو قانون 2004 الذي جاء مقيّداً للمفهوم السلس والمنفتح للعلمانية الأصليّة (قانون 1905)، وذلك بمنعه التلاميذ من ارتداء علامات دينية بارزة في المدارس الرسميّة، متقصّداً بشكل أساسي -ولو بكثير من النفاق- حجاب الفتيات المسلمات اللواتي تمّ بذلك حدّ حرّيتهنّ الدينيّة، وقد وصل التزمّت العلماني ببعض ناظري هذه المدارس بأن يفرضوا على الفتيات تقصير تنانيرهن إن كانت طويلة، وذلك كي لا تعتبر التنّورة رمزاً يعبّر عن معتقد إسلامي، أمّا الثاني فهو قانون 2010 الذي زاد من تضييق مفهوم العلمانيّة -بغضّ النظر عن الموقف الشخصي لكلّ منّا- فمنع النساء المسلمات من ارتداء البرقع في الأماكن العامّة.

ولكن لهذين القانونين الجديدين -المحصورين بحالات محدّدة- طبيعة استثنائية بالنسبة للقاعدة العامّة المذكورة آنفاً، التي تضمن حريّة التعبير عن المعتقد في الأماكن العامّة، فلا يمكن تعميم استثناءات كهذه أو البناء عليها بشكل كلّي لرفض التعبير عن المعتقد في الأماكن العامّة.

3) ذريعة مخالفة الانتظام العام

يستند رؤساء البلديات في حظرهم للبوركيني بأنّ من شأنه تهديد الانتظام العام، لا سيّما في أوضاع حسّاسة أمنيّاً كتلك التي تعيشها فرنسا حاليّاً على أثر موجة الهجمات الإرهابيّة التي ضربتها في السنتين الماضيتين.

ولكنّ هذا التبرير هو فضيحة عنصريّة بحدّ ذاته، إذ إنه تعبير فاقع عن الإسلاموفوبيا القائمة على خلط خاطئ بين الإسلام والإرهاب، وعلى تعميم تعسّفي ومجحف لصورة نمطيّة عن المسلمين -لا سيّما الملتزمين منهم- كإرهابيّين.
وقد جاء تطبيق هذه القرارات من قبل الشرطة البلديّة ليوسّع هذا التعميم الخاطئ والتمييز في المعاملة، إذ إن الشرطة لم تتردّد في تنظيم محاضر ضبط حتّى بحقّ من لا يرتدين البوركيني، وذلك فقط لأنّهنّ محجّبات على الشاطئ.

ومن المستغرب والمستهجن أنّ المحاكم الإدارية الابتدائية لم تبطل هذه القرارات المبنيّة على أسباب عنصريّة كهذه، لا بل أثارت هذه المحاكم -لا سيّما محكمة نيس الإدارية- سلسلة من العموميّات النظرية والجدلية والاجتماعية بعيداً عن القانون، والتي لا مكان لها عادة في قرار محكمة إدارية، ممّا فاقم من حجم الفضيحة القانونيّة.

4) ذريعة تحرير النساء المسلمات

يتذرّع من يدعم حظر البوركيني بضرورة تحرير المرأة المسلمة من سلطة الأب والأخ والزوج، ومن سطوة الرجل بشكل عامّ الذي -بحسب ما يدّعون- هو الذي يلزمها بالبوركيني أو بالحجاب أو ما شاكلهما.

ولكن لم يجبنا هؤلاء ماذا لو كان ارتداء البوركيني تعبيراً عن معتقد ديني عند المرأة؟ فهل من نفاق وظلم أكثر من صورة رجل شرطة يقمع -باسم التحرّر- الحرية الدينية لامرأة، وذلك بإجبارها على أن تخلع ثيابها على الشاطئ، وأن يتلذّذ بذلّها ومعايرتها بذلك أمام الجميع؟

أمام هذه المشاهد، لا يمكن إلا أن نتذكّر أعمال الكاتب "فراتنز فانون" الذي تناول مطوّلاً في دراساته لا سيّما في "معركة الحجاب" – تحليل أبشع ممارسات الكولونيالية والاحتقار التي كان يمارسها الجيش الفرنسي- خصوصاً حملات إزالة الحجاب في الجزائر- وذلك تحت ذريعة نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلفة.
وقد بيّن "فانون" -وهو طبيب نفسي في الأساس- أنّ الهدف الحقيقي من هذه الحملات كان استعمال المستعمر للمرأة المسلمة كوسيلة لإذلال الرجل المسلم وترويضه.

5) الدلالات الفعليّة لهذا الحظر

بالمحصّلة، إنّ كلّ هذه الذرائع هي طبعاً غير مقنعة.

ما يجري عمليّاً هو تحوير العلمانيّة وتسخيرها لصراع الهويّات، لا سيّما في محاولة لإيجاد كبش محرقة لتحميله مسؤولية الهجمات الإرهابية والعجز عن تفادي وقوعها.

لذلك يتمّ الانتقال تدريجيّاً من علمانيّة أصليّة تقدّميّة منفتحة تحرّريّة تشكّل محرّكاً للاندماج، إلى علمانيّة جديدة ولكن رجعيّة ذات مفهوم فئوي إقصائي، يتمّ استعمالها كرأس حربة موجّهةً حصراً ضدّ الأقلية المسلمة، لا سيّما للتمييز السلبي في المعاملة، ولمحو أي اختلاف عن باقي الفرنسيّين يمكن أن يتجلّى علناً في مظهر المسلمين أو في لباسهم أو في مأكلهم.. إلخ.

لذلك لا بدّ من السؤال -على طريقة الزعيم اللبناني وليد جنبلاط- إلى أين؟
إلى أين نحن ذاهبون؟ هل يتحمّل الساسة الفرنسيّون تدهوراً دراماتيكياً في صورة فرنسا في العالم؟ هل يعقل أن تصبح إحدى أعرق ديمقراطيات العالم ثيوقراطيّة علمانيّة تلتزم التزاماً حرفيّاً بعقيدة ديماغوجيّة وغير واقعيّة؟

هل من الطبيعي أن تتحوّل شرطة بلد حقوق الإنسان -فرنسا- إلى هيئة مطوّعين علمانيّين، أو إلى محاكم تفتيش علمانية، يسهرون على احترام "الآداب العامّة" المعادية لأي مظهر ديني ولأي اختلاف؟

هل يعقل ذلك في حين أنّ الشرطة الاسكتلندية أو الكندية سمحتا بالحجاب كلباس رسمي، أو في حين أنّ حتّى بعض الدول الدينية -التي يتمّ انتقادها والتهكّم عليها ليل نهار في فرنسا- بدأت تحدّ بشكل واسع من صلاحيّات الشرطة الدينيّة، كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية؟

هل من المسموح في القرن الواحد والعشرين أن يتمّ تعميم لباس موحّد للسباحة في جمهورية كفرنسا، ممّا من شأنه التذكير -ولو من بعيد- بأعتى الأنظمة التوتاليتارية، كبدلة "ماو" الزرقاء في الصين أو القمصان السود في إيطاليا الفاشية أو القمصان البنيّة في ألمانيا النازيّة؟ أين أنت يا حنّة أراندت؟ وكأنّك لم تكتبي ثلاثة مجلّدات حول "أسس التوتاليترية".

هل يستطيع المجتمع الفرنسي أن يتحمّل انقساماً عموديّاً بين من يريد عزل المسلمين والتخلّص منهم، وبين من يدافع عن حقوقهم؟ هل يعقل أنّ هذا المجتمع لم يتعلّم من التجربة الكارثية للعنصرية ضدّ اليهود التي شهدتها أوروبا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي؟

ثمّ هل يستطيع الساسة الفرنسيّون -لا سيّما أولئك المرشّحين للانتخابات الرئاسية في العام القادم- أن يتحمّلوا نزاعاً أهليّاً كانتفاضة في الضواحي يمكن أن يقوم بها 5 ملايين مسلم كردّة فعل على التباري المتمادي بين المرشّحين على شيطنتهم وتهميشهم وظلمهم؟ هل ما حصل في منطقة سيسكو في كورسيكا يعتبر الجولة الأولى في هذا النزاع؟

ألا يدركون أنّهم بذلك يقدّمون أكبر خدمة لداعش التي تريد عزل المسلمين في أوروبا عن المجتمعات التي يحاولون الاندماج فيها؟
أين أصوات العقل التي تبتعد عن لعبة التشنّج والتقسيم؟ أين رجال الدولة؟ أين تلك الهامات -كديغول- التي تعرف كيف تضع حدّا للمهاترات وأن تجمع الشعب في أحلك الظروف؟

لعلّ قرار مجلس شورى الدولة الفرنسي -وهو المحكمة الإدارية العليا- الصادر في 26/08/2016 والذي علّق العمل بأحد قرارات حظر البوركيني المطعون بها أمامه، يشكّل بادرة أمل في هذا المشهد السوداوي، وهو يؤكّد بذلك أنّ فرنسا ما زالت -رغم حفلة الجنون الإسلاموفوبي المنتشرة ونفاق علمانية محوّرة تحاول أن تسود- دولة قانون ومؤسّسات ترفض الاعتباطيّة في القرارات وتضمن الحريات العامة والفردية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد