عندما يتعلق الأمر بالإسلام، يتجرد الغرب من كل مبادئه، هذا ما تعلمته من خلال رصدي الحثيث لمواقف الاحتكاك بين الإسلام والغرب، التي أشعلت شراراتُها حروباً طاحنة منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع التسعينات وحتى اليوم، لكن المتابعة -التي باتت مملة- للمواقف شبه اليومية أكدت لي أن الغرب مستعد أيضاً للتخلي عما هو أبعد من المبادئ، وأن يسقط في هوة من السخف، ولمَ لا؟ فليس بعد "الحرب" ذنب!
في عام 2004، شنت فرنسا بأدواتها الإعلامية والثقافية حملة على قطعة القماش التي تغطي بها بعض المسلمات رؤوسهن، تمهيداً لإصدار قرار حكومي بمنع حجاب الفتيات في المدارس، فالقانون المعادي صراحة للإسلام ينبغي أن يحظى أولاً بدعم شعبي وفقاً لما يُمليه الإعلام، ثم يأمر به البرلمان، ويقره الرئيس، ويراقب تنفيذه القضاء، فتنتصر بذلك السلطات الأربع في معركتها ضد غطاء رؤوس الفتيات المسلمات.
كان المعلن آنذاك أن هذه المهزلة تنطلق وتنتهي ضمن إطار الديمقراطية والعلمانية وبقية الشعارات المنسوبة إلى الثورة الفرنسية، وهي شعارات مقدسة بطبيعة الحال لاحتلالها موضع الدين الذي ثارت عليه، والأمر هنا لا يتعلق بإجراءات اتخاذ القانون وتطبيقه، بل بدوافعه التي قيل إنها جاءت لحماية مبادئ الجمهورية التي "ناضل" الشعب لأجلها.
كان الجدل يثير حفيظتي إلى أبعد مدى، فأحمل في جيبي دفتر ملاحظات يعود إلى ما قبل عصر الهواتف الذكية، وأسجل فيه باستمرار ما أقرأه وأسمعه من مناقشات ومناظرات ومناكفات بشأن الخطر الذي يهدد به غطاء رأس المسلمات مبادئ الجمهورية الفرنسية، وكان من الممتع أن أنفض اليوم عن ذاك الدفتر غبار الاثنتي عشرة سنة الماضية؛ لأتأمل مليّاً في الرعب الذي ما زال يعتري الجمهورية إزاء إصرار بعض المسلمات على تغطية أجسادهن في الشواطئ الفرنسية، إلى درجة إصدار قوانين بمنع ارتداء "البوركيني".
كنت أفكر بكتابة مقال يستدعي الجدل الفلسفي الذي أثير آنذاك في أروقة الثقافة الفرنسية، غير أني خشيت على قلمي الوقوع في هوة السخرية الخارجة عن السيطرة، فما نفع الفلسفة بعد إعلان نهايتها؟ ولست أقصد هنا مصطلح "نهاية الفلسفة" لدى الفلاسفة الألمان مثل هيغل وماركس، بل المصطلح الذي تبناه فلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا الذين أعلنوا بلوغ قعر العدمية.
بدا لي من العبث استحضار فلسفة التشاؤم عند الفرنسي إدغار موران، الذي أتلمس اليوم خطواته القلقة وهو يسير في طريق المقابلة بين تقدم الغرب التقني وتخلفه الإنساني الأخلاقي، وحيث أدى به إلى سخرية الهروب من واقع مأساوي للإنسان في نهاية القرن العشرين.
كما أخشى الظهور بصورة المتشفي إذا استشهدت بانتحار الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، الذي لم ينتظر بلوغ نهاية القرن، بل اختار الترجل عن صهوة الغرب قبل أن يشهد المزيد من مآسي الانحلال فيما يسميه السياسيون بمبادئ الجمهورية.
هذا الإفلاس لم يمنع آخرين من إقحام الفلسفة آنذاك في قرار عنصري طائفي، فإذا كان البعض يعجز عن إيجاد التوازن ويسقط في هوة التشاؤم أو يسارع إلى الانتحار، فإن البعض لا يجد لعجزه حلا سوى بالمضي قدماً في المعركة حتى نهايتها، وإذا لم يجد عدواً قوياً كي يُعلن ضده حرباً صليبية تاسعة، فلن يصعب عليه اتخاذ قطعة قماش على رأس فتاة صغيرة طاحوناً يقارعه بالسيف على طريقة دونكيشوت.
كان الرئيس الأسبق جاك شيراك قد شكل "لجنة حكماء" من صقور العلمانية لإضفاء الشرعية الفلسفية على القرار، وما زلت أذكر الغثيان الذي كان يعتريني في متابعة حيثيات الجدل الفلسفي الذي كان مطروحاً في تلك المسرحية، ولست بصدد تكرار شيء من ذاك العبث، فالأولى بنا استدعاء الرأي الآخر الذي نعي به البعض "مبادئ الجمهورية" في الأروقة الخلفية لثقافة أعلن موتها قبل قرن.
من المفارقات أن موران نفسه علّق يائساً على ذاك العبث، حين دعا إلى تجاوز التناقض بين التمايز الطائفي وفرض التماثل من أجل تطوير نموذج متعدد الثقافات، كما تساءلت صحيفة لو فيغارو: "أي طموح يمكن أن يساور فرنسا؟ ما معنى أن نكون فرنسيين؟"، مذكّرة بأن "العلمانية هي مبدأ تنظيمي وليست مصيراً".
لكن ذلك كله لم يمنع 69% من الفرنسيين من تأييد حظر الحجاب، بل زاد القانون من شعبية شيراك وحكومته، وإذا كان رئيس أساقفة ليون فيليب بربران قد رأى آنذاك أن حظر الحجاب "قد يشكل مهد الأصولية"، فإن الرأي الذي أراد الإعلام وصقور الفلاسفة بثه بتحريك رسمي، هو العكس تماماً، على اعتبار أن الأصولية ستنتهي إذا أجبروا نساء الأصوليين على خلع الحجاب!
وهذه هي الحجة نفسها التي قُدمت عام 2011 بين يدي قانون حظر النقاب، وهي أيضاً التي يعلنها اليوم رؤساء البلدية في ثلاث مدن قررت حظر "البوركيني" المحتشم على الشواطئ، فرئيس بلدية "كان" يقر بأن بعض مِن يرتدينه يفعلن ذلك بحسن نية، لكن أخريات يفعلنه "استفزازاً"، وطالما كان التمايز في المظهر مؤشراً على احتمال الاستفزاز، فإن الثقافة العلمانية تسمح بتجاوز مبادئ الحرية الفردية ومنع الجميع من ارتداء هذا الزي.
أما رئيس بلدية "فيلنوف لوبي" فلم يترك مجالاً للفلسفة ولا للثقافة، ويقول لمراسل قناة فرانس24: "أريد أن نتوقف عن الرغبة في التفرد عبر لباس كهذا خارج المجتمع والجمهورية"، ولكي يوضح ما معنى الخروج على الجمهورية يلتفت إلى أجساد الفرنسيات على الشاطئ من حوله ويتابع حديثه للكاميرا "هنا نحن في فرنسا الكل متساوون دون تمييز بين عرق أو دين"، وبعبارة أخرى، فإن زمن الحرية الفردية قد انتهى حرفياً، فيجب على الكل في جمهورية التنوير ومنبع حقوق الإنسان أن يكونوا متناسخين من حيث العلاقة بالتعري، كي يصبحوا متساوين!
ولن أزعج القارئ باستفزازه عبر جلب المزيد من التصريحات الجنونية، فلو لم نكن جزءاً من هذا العالم المجنون لبدا الأمر أشبه بنكتة سمجة، لا سيما عندما يظهر مسؤولون كبار وهم يؤكدون أن التضييق على المسلمين في حرياتهم الشخصية هو حل للتطرف وليس مبرراً له!
ألم أقل لكم إنه عندما يتعلق الأمر بالإسلام، فإن الغرب يتجرد من كل مبادئه؟ ليس من "مبادئ الجمهورية" فقط، بل من مبادئ المنطق المجرد الذي انتحر دولوز كي لا يشهد بعينه انهياره المدوي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.