لقد خلقنا الله شعوباً وقبائل لنتعارف ونتعاطف ونتعاون مع بعضنا البعض؛ لصنع حياة ومجتمع يحتوي الجميع، لا فرق بيننا كبشر أسوياء على أساس القومية أو العرق أو اللغة أو الجنس أو الدين أو المعتقد، أو حتى الاتجاه السياسي والطبقة الاجتماعية.. والاختلاف بين البشر على أساس هذه المتغيرات لا يمنعنا أبداً من أن نعيش معاً، متحابين متوافقين متعاونين، نسعى جميعاً لتحقيق السعادة والرفاهية والازدهار لنا جميعاً ويقوي بعضنا الآخر، ولا نستطيع أن نحقق هذه الأهداف إلا بتوافر القدر الكافي من التسامح بيننا، وإن اختلفنا بطبيعتنا البشرية التي خلقنا الله بها.
إن البشرية اليوم تعيش في مأساة عظيمة، ولا أقول العراق فقط!.. فهنالك الكوارث والحروب والمؤامرات والخيانات الدولية و"الطائفية الدولية" التي سعوا إلى تدويلها منذ سنوات خلت! ويعاني ملايين البشر من الظلم والقهر وفقدان الأمن والأمان؛ لذا فإن التزامنا بصفة التسامح لا تخدم بلدنا فقط ولا المجتمع الذي نعيش فيه، سواء في المدرسة أو الجامعة أو الدائرة الحكومية أو الحي السكني فحسب، بل هي مفيدة لجيراننا من الدول الأخرى التي تعاني ما عانيناه من كوارث وويلات وحروب، ومفيدة للعالم أجمع كوننا جزءاً منه، وفي الوقت الذي أصبحنا فيه مثلاً يضرب كلما ذكرت الخلافات العقائدية والسياسية.. سنكون حينها مثالاً يضرب للتسامح والوحدة والقوة.
التسامح هو ألا تجد قيمة للكره أو الغضب والحقد في قلبك، وإنه التخلي عن الرغبة في إيذاء الآخرين ومحوهم من حقهم في الحياة بسبب شيء قد حدث في الماضي!
التسامح يجعل حياتنا أقل عبئاً وأقل ثقلاً مما هي عليه الآن ويعوضنا عن خسائرنا وما فقدناه من أرواح زكية؛ لنكسب حباً يعوضنا عما فات، وليخلق لنا التسامح وطناً وعالماً نمنح فيهما، ومن خلالهما، حبنا لأي إنسان.
التسامح هو تحد وسباق مع الذات، وهو من أسمى الصفات التي أمرنا بها الله عزّ وجلّ ورسولنا الكريم، فالتسامح هو العفو عند المقدرة، والتجاوز عن أخطاء الآخرين، ووضع الأعذار لهم، والنظر إلى مزاياهم وحسناتهم، بدلاً من التركيز على عيوبهم وأخطائهم، فالحياة قصيرة تمضي دون توقف، فلا داعي لنحمل الكُره والحقد بداخلنا، بل علينا أن نملأها حباً وتسامحاً وأملاً حتى نكون مطمئنين مرتاحي البال؛ لنقرب الناس إلينا كي يمنحونا حبهم، وهنا أجمل الكلام عن التسامح؛ حيث قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وأذكركم بقوله عز وجل: (وَأَنْ تَعْفُو أَقْرَبُ للتَّقْوَى)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل مَن قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك".
إن الكتب والصحف والرسائل التي نتداولها منذ قرون وبكل لغات العالم، تزخرُ بالحديث عن هذه القيم، ونحن نتداولها ببغاوياً ونُنظر فيها بأحلى الكلمات وأجملها، لكنها مع الأسف، ظلت حبيسة هذه الأوراق، دون أن تتحول إلى برامج تدريبية ومناهج للعمل الدؤوب على تطبيقها عملياً على مستوى السلوك والتصرف.
فأين نحنُ من قيم السماء في العدالة والتسامح والصفح التي ظلّ الخالق يأمرنا بها على مدار أكثر من عشرين قرناً من الزمان؟ لماذا لم نستطِع أن نحول قيم الفضيلة والمحبة والتسامح إلى آليات عملية سهلة التطبيق في مجتمعاتنا العربية؟!
إن كان الماضي فيه شيء من قصص التسامح والحب فلنمشِ على خطى هذه القصص والروايات، وأن ننسى الماضي الأليم بكامل إرادتنا؛ لأن ما مضى مات وهو حالة خاصة لمن عاشوا تلك الحقبة.. التسامح هو الثقافة الحقيقية، وهو القرار بأن نحيا سعداء مع بعضنا البعض تحت سقف وطن واحد، وألا نعاني أكثر مما عانيناه، وأن نعالج قلوبنا وأرواحنا وعقولنا ورؤانا ورغباتنا بأن نفتح أعيننا على مزايا الآخرين الجميلة بدلاً من عيوبهم.
وإليكم شاهداً آخر يدعونا إلى إعمال الفكر والعقل والعاطفة عل حد سواء للتعامل مع الحياة، فمن منا لا يخطئ، ومن منا لا يضعف أمام هزات الحياة ومشكلاتها.. ولكن كيف نتعامل بمبدأ قبول الآخر! حيث يتساءل الفيلسوف الفرنسي فولتير قائلاً: "ما هو التسامح؟ إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعاً من نتاج الضعف، كلنا هشون وميالون للخطأ، ولذا دعونا نسامح بعضنا البعض ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل"!.. من خلال هذه المقولة نتيقن بأن الحديث عن التسامح هو حديث عن القوة والإيمان والعزيمة والتقوى، وهو ليس حديثاً عن التنازل أو الضعف أو التهاون، كما يحلو للبعض أن يفسره.
لقد تيقنت منظمة اليونسكو مدى أهمية التسامح ودوره في استقرار الدول وأمن الشعوب، لتجعل أحد أيام السنة يوماً عالمياً للتسامح، ويرجع تاريخ التفكير في إعلان اليوم العالمي للتسامح إلى عام 1993 حين اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم (126/48) الذي يقضي بأن يكون عام 1995 هو "العام الدولي للتسامح"، بناء على مبادرة من المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو الدولية المنعقد في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1995.
نحن في هذه الأيام وأكثر من أي وقتٍ مضى، بحاجة ملحة إلى ثقافة التسامح؛ لأنها الحل الوحيد والعلاج السحري الذي يوصلنا جميعاً إلى بر الأمان والسلام المفقودين، ويدحض ويعري أكاذيب الطائفيين والمتطرفين وأعداء الاستقرار، وإن هذه الثقافة هي الأمل الذي يرنو إليه المعتدلون والخيرون من أبناء شعوب العالم، ليحيوا حياة حرة كريمة بعيدة عن الخصام والكراهية والاقتتال والحروب.
وتحتاج هذه الثقافة إلى منهج عملي وفكري متكامل يتم تطبيقه بشكل يتناسب مع ظروف المجتمع وتطلعاته وحجم المشكلة التي يعاني منها، وحتى إن تطلب الأمر فتح مدارس ومراكز لتأهيل مدربين وقادة رأي في هذا الخصوص، أو من خلال تأسيس هيئات نزيهة ومحايدة ومستقلة تتبنى التأسيس والتطبيق لثقافة التسامح، تكون مؤمنة بشكل كامل بهذه الثقافة وعلى درجة عالية من المرونة والانفتاح؛ لتستطيع تنفيذ برامجها التوعوية والتثقيفية في داخل المجتمع بشكل سلس وإيجابي مع الأخذ بنظر الاعتبار القدرة على مواجهة العقبات والصعوبات أثناء التطبيق وكيفية معالجتها والتعامل معها.. وهنا يكون دور الإعلام في تعزيز ثقافة الحوار والتسامح، وهذه الثقافة لا تأتي من فراغ بل تحتاج إلى تثقيف وتوعية و"وعي" فردي ومجتمعي، وأن تتبناها الدولة بدعم كبير وبشكل منتظم.
إن بناء دولة المواطنة يتطلب من الأفراد أن يكونوا على استعداد للتضحية بما يحقق دولة المجتمع التعاوني وبناء المجتمع القوي الرصين؛ لذا فإن الوطن أمانة في رقبة الجميع وتاج على رؤوس الجميع، من السياسيين قبل المواطنين، والأقوياء قبل الضعفاء والأغنياء قبل الفقراء والسعي إلى الارتقاء به إلى السمو والعلو والرفعة والترفع عن الأنانية والمناطقية وحب الذات.. حينئذ سيشعر الجميع بروح المواطنة الصالحة العليا، والانتماء الكبير في ظل المساواة والعدل وحكم القانون، ومن هنا تبدأ عملية غرس حب الانتماء للمجتمع الذي نعيش فيه وغرس التسامح الحقيقي في عقلية الجيل الواعد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.