على الرغم مما تمتلكه أمتنا من مفكرين وعلماء هزوا بخطبهم شرق العالم الإسلامي وغربه، وبينوا خطر "داعش" وغيرها من التنظيمات التي تحاول تشويه الواقع الإسلامي، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء العلماء ركزوا في معركتهم الفكرية مع التنظيم على تبيان أخطائه الشرعية بأسلوب لم يكن مكافئاً لما يقدمه التنظيم لمتابعيه من أفكار، مستخدماً وسائل إقناع متجددة، مستغلاً بعد معظم أولئك العلماء عن واقع الشباب وقربهم من السلطات الحاكمة المتواطئة أو المتخاذلة على أقل تقدير؛ ليستطيع بأسلوبه أن يزرع في عقول مؤيديه أن ما يبث ضده محض افتراء، وأن دولته هي دولة الإسلام التي اجتمع العالم كله على قتالها.
أغفل علماؤنا ضرورة توعية المجتمع لطرق استيعاب من تطرف فكره، والذين كانوا ضحية فشلنا في إقناعهم وإرجاعهم لجادة الصواب، ضحية فشلنا في احتوائهم والحفاظ عليهم بيننا، فخسرنا جولات كثيرة في معركتنا الفكرية مع "داعش".
أنا وكثيرٌ غيري كنا من الدعاة للتنظيم، بغير قصد ربما، دعونا أولئك الشباب للرحيل إلى أرض الخلافة، لطالما لجأنا لإنهاء الحديث بجمل استفزازية عندما رأينا أن النقاش معهم أصبح جدلاً.. ولطالما طلبنا منهم الرحيل عنا إلى ما يرونه الحق المطلق، وأن العالم قد تآمر بالكامل عليهم، اذهب للعراق وقاتل بجانبهم واتركنا نعيش في مناطق كفرنا، إن كنت تراها كذلك.
رغم صداقتي مع "جابر" لأكثر من سبع سنوات، فإنني مللت نقاشه في الأشهر الأخيرة، فصار ختام كل حديث بيننا انزل إلى الرقة قد تجد صدق كلامي عندما تعيش بقربهم"، كان "جابر" ابن الثلاثة والعشرين ربيعاً شاباً كغيره من الشباب، لا يعرف التطرف والتشدد، يدرس الطب منذ قرابة خمس سنوات، وكان تخرجه قد تأخر لعامين بعد فراره من الملاحقة الأمنية في سوريا، قبل أن يقرر استكمال دراسته في مصر؛ ليتركها في العام الماضي معلناً لبعض المقربين التحاقه بتنظيم الدولة، وداعياً إياهم إلى أن يتبعوا طريقه.
كنا دائماً ما نشعره بنقصه، لم نستطع احتواءه بالشكل الصحيح، لطالما حاربنا ذلك الصوت الذي أبقاه لأكثر من عام بالقرب من أهله وأصدقائه، لم نفكر يوماً أن الضغط الذي ولدناه بداخله سيدفعه يوماً لتفجير نفسه على أبواب الموصل في العراق، تاركاً دموع أمه تلوح على عتبة البيت لأكثر من سبعة أشهر، وهي تمني النفس بعودته قريباً، محاولةً إقناع عقلها بأن آخر ما سمعته منه عندما كان ذاهباً بشاحنته إلى الحور العين كان خيالات، أو أن الصاعق الذي قال لها إنه يمسكه قد تعطل بفعل دعائها.. ليت ذلك كان حقيقة، وليت كل العذابات التي عشناها في غيابه كانت اختباراً إلهياً؛ لنصحو من جريمتنا التي ارتكبناها ونرتكبها حتى اليوم.
أعود أحياناً للتفكير، كم من جابر ذهب ضحية ظلم المجتمع وعدم قدرتنا على تقبل فكره! كم من جابر استطاع التنظيم الفوز علينا بمعركة جذبه، وبتقصيرنا انتصر علينا ثانية عندما أقنعه بأن كل الذي تكلمنا به عن التنظيم من جرائم كان محض افتراء! وكم من جابر ذهب ليلاقي الحور العين في الجنة عندما حولنا حياته خارج الدولة لجحيم يشعره بنقص ونبذ لم يشعر به سابقاً.
نقسو دائماً كشباب على من حولنا، على أصدقائنا، على أهلنا، نقسو عليهم عندما نفقد الأمل في إقناعهم؛ لأن من زرع تلك الأفكار في رؤوسهم كان أقوى منا، كان أفضل منا في جذبهم واحتوائهم عندما فشلنا نحن في ذلك.
معركتنا الفكرية مع التنظيم لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية، وكم نحتاج من تغيير في آليات طرحنا ونقاشنا، وفي آليات فهمنا لأزمة التطرف الفكرية والمجتمعية، وفي الطريقة المثلى لاحتواء المتطرفين.. كي لا نخسر جابراً جديداً نحن بحاجة لذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.