جريمة رابعة.. وحشية التترس.. ووحشية الفض

معركة رابعة باعتبارها معركة سياسية بين حق سياسي وباطل سياسي.. بين أنصار الديمقراطية وبين أنصار الدبابة.. بين استكمال مسارات ثورة يناير وبين تحالفات الثورة المضادة، وتوظيفاتها للناقمين على حكم الإخوان.. لم تكن معركة حديةّ بين إيمان وكفر، كحديّة "أصحاب الأخدود".. فطبيعتها السياسية تسمح بكل أنواع وأشكال المناورة السياسية.. لم تكن معركة تستحق إراقة كل هذا القدر من الدماء!

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/14 الساعة 02:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/14 الساعة 02:15 بتوقيت غرينتش

للوهلة الأولى يبدو العنوان صادماً، أو حتى ظالماً، أو مستفزاً.. فقضايا الدماء أكثر قضايا الإنسانية حساسية وشائكية، إذ تجد نفسك مضطراً تجاهها أن تسكت إن لم تكن قادراً على الصراخ في وجه المجرم بعدما فقدت القدرة العملية بالطبع على منعه من إتمام جريمته.. ويمكن أن تظل ذكرى رابعة على مر التاريخ بكائيةً عظيمةً، أخدودية جديدة، كربلائية خالدة.. هولوكوست يخيف كل من أيد أو عارض أو حتى امتنع.. تابوهاً تاريخياً آخر يضاف إلى تابوهات التاريخ..

الصمت إذن هو الاختيار الأمثل لكاتب أو باحث لا يمكنه التصفيق للجلاد، ولا الرقص على خشبة المذبح فوق جثث الضحايا، في ذات الوقت الذي لا يمكنه فيه المشاركة في مواصلة العويل إلى آخر العمر على الدماء البريئة المهدرة..

إذ لو كان الصمت في مثل هذه الوقائع التاريخية المُلغّمة فضيلة، لما كان للتاريخ ذاته أي معنى، ولَوُصم كل كاتبي التاريخ بالتجرد من إنسانيتهم..

توقفت طويلاً وأنا أقرأ في كتاب المنهج الحركي في السيرة النبوية للدكتور "منير الغضبان" -رحمه الله- مع توصيفه لمذبحة "حماة" السورية، وهي مذبحة إنسانية أخرى تضاف إلى جرائم إنسانية كثيرة يرتكبها الطغاة في حق المناوئين لهم.. فـ"حماة" في الثقافة الإنسانية المعاصرة، وفي الذاكرة البكائية لأبناء التيار الإسلامي، مذبحة دموية وجريمة إنسانية متكاملة الأركان، تضاف إلى رصيد البكائيات شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً..

توقفت طويلاً أمام توصيف "الغضبان" لها لأنه وهو المحسوب على القيادة الفكرية للحركة الإسلامية المعاصرة، ليس فقط في جناحها الأكثر اعتدالاً -الإخوان المسلمين- بل كان كتابه المنهج الحركي وفكره عموماً مصدرَ إلهام للحركات الأكثر تشدداً، وجماعات العنف.. قد حمّل أبناء الحركة الإسلامية في سوريا جزءاً من مسؤولية المذبحة، بالتحديد ضباط الاتصال بين القيادة الحركية في دمشق، وبين المتمترسين على الأرض في حماة.. إذ بدّلوا -وفق روايته- نصائح القيادة بالانسحاب، إلى الدعوة إلى الثبات والصمود، خوضاً لمعركة لا يملكون الجاهزية لخوضها من الأساس، فكانت الفاجعة!

"منير الغضبان" لا يمكن وضعه ضمن حمائم منظري الحركة الإسلامية، ولم يُعرف عنه مراجعته لآرائه وكتاباته -الأكثر جنوحاً- كمراجعات الأستاذ "فتحي يكن" على سبيل المثال.. ومع ذلك ظلت إدانته لوسطاء الحركة الإسلامية السورية الذين ورّطوا الحركة في مذبحة حماة، في كتابه الأبرز، شاهدة على أن استمرار البكائية أبد الدهر ليس من التعصب التنظيمي في شيء، فضلاً عن أن تكون دليلاً على الانتماء الواعي للفكرة أو المذهب أو المشروع.. في ظني أن "الغضبان" -رحمه الله- أراد بهذه الإدانة الواضحة لإخوانه -الوسطاء- أن يكرّس لمفهوم الطاعة المطلقة للقيادة الملهَمة.. لكنه زرع في المقابل مبدأ أن المراجعة والنقد يظلان واجباً ولو كان لأداء شهداء قضوا في المذبحة.. كما أنه أسدى للأمة مفهوماً تاريخياً يُعتبر ثورة فكرية ضد البُكائيات وأساطير الهولوكوست المتعاقبة.. لأنه قال ببساطة ووضوح: إن مذبحة "حماة" ما كانت لتقع بمثل هذه الضراوة -على الأقل- لو لم يخطئ -الوسطاء- أو يجتهدوا!

لا يكفي أن تكون صاحب حق، أو أن تكون قضيتك وهدفك وغايتك الدفاع عن الحق لتنتصر، أو لتُقر هذا الحق الذي تُدافع عنه.. ولو كان النصر والتأييد يجري مع الحق دون الأخذ في الاعتبارات السُنن الكونية وعالم الأسباب والمسببات، لما وقف "الحُباب بن المنذر" لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "ليس هذا بالمنزل".. فالمنزل الاستراتيجي إذن شرط من شروط انتصار الحق..

حتى الكربلائية الخالدة في التاريخ لم يسلم بطلها "الحسين" -رضي الله عنه- من نقد معاصريه وهم خيرة الصحابة رضوان الله عن الجميع، كابن عباس وبن عمر اللذين لم يخرجا معه ونصحاه بعدم الخروج، وأخاه "الحسن" الذي أوصاه وهو على فراش الموت ألا يستفزه قومه للخروج!

"أصحاب الأخدود" فقط تظل هي المذبحة الإنسانية التاريخية التي لم يكن في الإمكان تجنبها فخلّدها القرآن الكريم.. معركة أصحاب الأخدود لم تكن معركة سياسية اجتهادية، ولم تكن معركة نسبية للحق، وإنما كانت معركة بين إيمان وكفر صريحين، ولم يكن أمام المؤمنين في سياقها إلا اختيارين لا ثالث لهما، ولا مجال للمناورة بينهما، إما الكفر بالله تعالى وإما الإلقاء في النار..

معركة "رابعة" لم تكن معركة بين الإيمان والكفر، ولا بين الحق المطلق والضلال المبين.. لكنها كانت معركة الديمقراطية وآلياتها، هكذا أتصورها وهكذا أتصور فهم أصحابها أنفسهم لها.. أتذكر ذلك الشعار المعبّر الذي كان يهتف به المتظاهرون في أعقاب بيان (3 /7).. "الحكاية مش إخوان الحكاية شعب اتهان"!.. الشعار الواقعي الذي رفعه أنصار الشرعية أنفسهم -والذين تحولوا إلى الربعاويين فيما بعد- لم يعتبر القضية قضية الإخوان، فمن باب أولى ليست قضية إيمان وكفر، وإنما هي قضية سياسية وطنية شعبية في المقام الأول والأخير.. ولا شك عندي أن مطالب أنصار الشرعية كانت عادلة ومقبولة، ولا أقتنع أبداً -وهذا حقي- بأن من حق فئة من الشعب ولو خرجت بأعداد غفيرة، أن تُسقط اختيار الصندوق إلا في ثلاث حالات: ممارسة الحاكم للقمع والبطش وتكميم الأفواه ومنع الاختيار، أو التزوير الواضح الصريح للصندوق، أو الامتناع عن إجراء الاستحقاقات الانتخابية في موعدها المقرر لغير اعتبارات يقبلها الشعب..

في غير هذه الحالات الاستثنائية لا يوجد مبرر من الأساس لثورة شعبية، حتى ولو كان الأداء السياسي للحاكم وحزبه مخيباً للآمال، وأقل كثيراً من سقف الطموحات الشعبية -وهذا ما أُقره أيضاً- فلم يكن الأداء السياسي للحرية والعدالة مُرضياً على كافة المستويات..

ولكن الآليات الديمقراطية لاستبداله كانت موجودة على الدوام.. وعلى العموم لم أسمع تاريخياً عن ثورة شعبية تولد في غير ظروف قمعية حقيقية يمارسها الحاكم ووكلائه، وهو الأمر الذي لم يستطع ممارسته -الحرية والعدالة- فالحزب لم يتمكن واقعياً من مفاصل الدولة، ولم يستطع مقاومة الدولة العميقة ولا الثورة المضادة، فضلاً عن ممارسة القمع ضد الشعب، ولم يستطع تكميم الأفواه، ولا حتى أن يفرض عليها الحد الأدنى من الاحترام.. لا ثورة شعبية يقوم بها الشعب من أجل استعادة قبضة الدولة الضاغطة ضده! والتي كاد الاخوان -بأدائهم الضعيف- أن يفلتوها إلى الأبد!

أنصار الشرعية الدستورية والشعبية والديمقراطية -من وجهة نظري- كانوا على حق في مطالبتهم باستعادة المسار الديمقراطي الطبيعي!

معركة رابعة باعتبارها معركة سياسية بين حق سياسي وباطل سياسي.. بين أنصار الديمقراطية وبين أنصار الدبابة.. بين استكمال مسارات ثورة يناير وبين تحالفات الثورة المضادة، وتوظيفاتها للناقمين على حكم الإخوان.. لم تكن معركة حديةّ بين إيمان وكفر، كحديّة "أصحاب الأخدود".. فطبيعتها السياسية تسمح بكل أنواع وأشكال المناورة السياسية..

لم تكن معركة تستحق إراقة كل هذا القدر من الدماء!

الاكتفاء إذن بتجريم وإدانة جريمة الفض الدموي للاعتصام السلمي للاحتجاج السياسي المشروع -وإن بدا وجيهاً وأكثر إنسانية وتعاطفاً مع الضحايا وذويهم المكلومين- يكرّس ذكرى رابعة كإحدى البكائيات المقدّسة، ويهدر أي فرصة للاستفادة من دراسة أسباب نتائج التجارب الكارثية المريرة.. وما أظن البشرية عرفت تسجيل وكتابة التاريخ إلا بهدف واحد هو الاعتبار المؤدي إلى تكرار التجارب والمحاولات الناجحة لتعظيم الفائدة والبناء الحضاري التراكمي عليها..

وفي المقابل تجنب ارتكاب ذات الأخطاء في المواقف والظروف المتشابهة.. هكذا قال القرآن الكريم (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) يوسف من الآية111.. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يوسف من الآية 109

ثمة أسئلة يجب أن تُطرح على صانعي الحدث، قادة الاعتصام والداعين إليه، ومن عمل على شحن البشر إليه شحناً.. أسئلة منطقية على وكلائهم وشركائهم خارج السجون في أنقرة والعواصم الأوروبية أن يجيبوا عنها، ولديهم فرص الظهور في ثُلّة من الفضائيات الموجّهة لأنصارهم والمتعاطفين معهم..
لماذا تم اختيار ميدان رابعة العدوية المنعزل عن منطقة وسط البلد الحيوية (ماسبيرو – التحرير – رمسيس)؟!

-إذا كان الهدف من الاعتصام أساساً هو إفشال محاولة الانقلاب العسكري واختطاف الرئيس، فلماذا لم تتحرك هذه الألوف المقدرة بالمئات -على الأقل- لحماية قصر الرئيس في ساعات الخطر؟
-عندما تم إرسال رسائل الدم، الرسالة تلو الأخرى بداية من (الحرس الجمهوري1- الحرس الجمهوري2- المنصة- رمسيس1)، لماذا لم يتم صرف الاعتصام أو نقله لمنطقة أكثر حيوية أو ترشيده؟
-ألم يقرأ القائمون على الاعتصام والمحركون له أن الفض قادم لا محالة؟
-إن لم يقرأوا الرسائل الدموية، ولم يتبينوا الموقف المحلي والدولي، ولم يُعدّوا للأمر عدته، ففيما كان تصدرهم للموقف إذن؟ وكيف يظلون بعد الكارثة قادة مطاعين في فصائلهم؟!
-لماذا لم يصرفوا النساء والأطفال والشيوخ في الأيام التي سبقت الفض مباشرة، وتركوا اعتصاماً رمزياً قادراً على المناورة والإفلات من المذبحة البشعة؟

الأسئلة أكثر من ذلك وأقسى.. غير أن مقام الذكرى الإنسانية لفض اعتصام رابعة، تأبى إلا أن نترفق ولا نزيد..

كثير من قادة ومنظري معسكر (30 يونيو) استنكروا مذبحة رابعة وأعلنوها جريمة إنسانية.. وكثير منهم قفز بعيداً لا خوفاً من غرق المركب -فهو لم يغرق بعد ولم يترنح- وإنما اعترافاً ببشاعة الجريمة.. فمتى في المقابل نرى من معسكر أنصار الشرعية من يندد بجريمة التترس والحشد الأعمى في ميدان رابعة بلا رؤية ولا تخطيط ولا هدف؟

أخيرا أسجل أن صنفين من الناس لا أستطيع أن أصافح أكفهم بكفي، ففي قناعتي أن أكفهم ما زالت مضرجة بدماء الضحايا الأبرياء في رابعة وأخواتها، الراقصون على الجثث المحرّضون على الدم المزفّفين على الجرحى والثكالى واليتامى.. وكبراء المحرضين على الاعتصام الشاحنين بشراً لمذابحهم، لغبائهم السياسي وتعصبهم المقيت الأعمى، وعماهم التام عن الواقع، وجهلهم المطبق بدروس التاريخ.. فلا هؤلاء ولا أولئك أسمح لكفي بمصافحة أكفهم.. أما الضحايا من الشهداء الأبرياء الأطهار فأقول لذويهم: نحسبهم شهداء عند ربهم يرزقون، شهداء وطن وعدل وحرية وثورة كشهداء يناير الأماجد.. والله حسيبهم وحسبهم!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد