مرت أيام على الانقلاب الفاشل في تركيا، ولكن هذا الحدث سيكون مركزياً في التاريخ التركي الحديث، كما في تاريخ المنطقة، نجحت تركيا في صد انقلاب كان يمكن أن يجر البلد للمجهول، وهي الدولة التي قفزت قفزة نوعية في تطورها السياسي في اتجاه تعزيز تبادل السلطة وتحكيم الديمقراطية، ولا يزال واجباً العمل على ذلك، وفاقت هذا التطور بخطوات تطورها الاقتصادي الذي جعلها في مصاف الدول العشرين المتقدمة اقتصادياً على مستوى المعمورة، أضف إلى ذلك الخصوصية التي يكنها العرب لتركيا؛ لوجود قيادة بخلفية إسلامية في قيادتها، ما ذكر آنفاً لا ينفي النواقص والسلبيات التي ما زالت تعانيها تركيا، ودورها الذي يجب أن يقاس في سياق الدولة الوطنية ومصالحها، وفي سياق تمثيلها لمصالح الشعب التركي في الأساس، إضافة لعلاقتها المركبة مع المؤسسة الإسرائيلية من جهة، ووقوفها مع الفلسطينيين من جهة أخرى.
إذاً نظرتنا وتحليلنا لما يحدث في تركيا يجب يكون مقروناً بعين نقدية تأخذ من تجربة تركيا أحسنها وتشير للسيئات وتتركها، فيجب أن لا نرى بتركيا وأردوغان كل الحسنات ونغفل السيئات، بل يجب الموازنة بينهما.
في هذا المقال سأضع بعض الملاحظات حول التجربة الانقلابية الفاشلة في تركيا في عجالة، وستكون على شكل ملاحظات تعالج بعض النقاط حول أيام الانقلاب وما بعده:
1. بين الديمقراطية والإسلام في تركيا.. مَن انتصر؟
المحددات القيمية لما يحدث في سياق الدولة كبناء سياسي، ومنها تركيا، يجب أن تنطلق من منطلقات أساسية، هي من مقاصد وجود الدولة، ألا وهي حرية الشعوب ودعم إرادتها الحرة وكرامتها واختيارها، وأن تعيش بنظام شورى ديمقراطي عادل ترسّخ فيها مبادئ العدل والحكم الرشيد وتحترم هوية البلد.
في السياق الإسلامي، المبادئ هذه غير متعارضة أبداً مع الرؤية الإسلامية، بل هي في صميم الشريعة ومقاصدها ويجب تطبيقها، هذا لا يمنع أبداً أن لا يسعى الإسلامي، كصاحب برنامج سياسي كالآخرين، بأن يرى الدين بمعاييره الخلقية والمبدئية والجزائية حاضراً ويتجسد ذلك من خلال نشره لهذه المبادئ وتحقيقها وفق برنامج انتخابي، فإذا انتخب هذا البرنامج لماذا لا يطبّق؟
يكون التطبيق مع حفظ المقاصد والمبادئ السابقة كاملة وتكون آلية تبادل السلطة واضحة وهي الصناديق. (أي تكون مبادئ عامة أساسية متعارفاً عليها عند الجميع)، بالمناسبة الديمقراطية ليست بالضرورة هي الديمقراطية الليبرالية الغربية أو العلمانية، فالديمقراطيات وأنواعها ومبادئها مختلفة.. وبالتالي ما حدث في تركيا هو انتصار للمبادئ الديمقراطية والمبادئ الإسلامية معاً.
بالمناسبة التكبيرات واستخدام المساجد، وبعض الشعارات الوطنية التي رفعت وهي إسلامية، الله أكبر وبسم الله في التظاهرات، ومع العلمانية القوية في البلد، إلا أنه يشير إلى رسوخ المظاهر الإسلامية والهوية الإسلامية الممزوجة بالبعد الوطني، وكأنها جزء من الهوية القومية، أو الوطنية التركية كذلك، إضافة لدعم الديمقراطية وقيمها.
2. العسكريون، الدولة والولاءات العسكرية!
توزيع مراكز القوى مقابل تركيز السيطرة في القطاعات الأمنية والعسكرية في الدولة يمكن أن يكون له سلبياته وإيجابياته، إذ إنه لو كان مركز القوى بيد هيئة واحدة ممكن أن تكون له مركزية ونفوذ كبيران، مما يعطيه القوة للقيام بما يريد كالانقلاب (مثال لحد معين ما حدث في مصر)، أو على العكس يمكن أن يدعم هذا الجيش بمركزيته الحاكم بقوة (مثال لحد معين سوريا)، ويكون ذلك إذا انعدم الانتماء للوطن، ولم ترسّخ قيمة الجيش كحامٍ للوطن والمواطن وقيم العدالة والتحول السلمي.
بالمقابل توزيع مراكز القوى ممكن أن يفضي إلى تقاطعات مصالح وتنافس بين القطاعات المختلفة، وحسابات ضيقة كما يمكن أن يؤدي إلى اصطفافات، وانقسامات واحترابات.
في تركيا وفي فترة أردوغان استعيض عن المركزية بلا مركزية، ويبدو أن ذلك نبع من إدراكه أن الجيش ليس بتلك الروح الحاملة للديمقراطية وخيارات الشعب، وهذا ما كان بالفعل، هذه اللامركزية كانت أحد أسباب دحر الانقلاب، إذ اصطفت المخابرات والشرطة وبعض قطاعات الجيش مع الشرعية في تركيا، ووازنت قوة الانقلابيين العسكرية، في الوضع الطبيعي يجب أن يكون ولاء العسكريين للدولة، وأن يكونوا منطوين تحت السياسيين المدنيين المنتخبين وبولاء واحد للوطن، ويبدو أن أردوغان يستثمر هذه المحاولة الانقلابية من أجل التأسيس لذلك.
3. ما بعد الانقلاب!
على الحكومة التركية العمل بيد من حديد مع الانقلابيين لخيانتهم لبلدهم وللحاجة لردعهم، ولكن بالمقابل يجب على تركيا أن ترسّخ قيم العدالة والمحاسبة العادلة والشفافية ونزاهة المحاكمات، والسعي لتنحية روح الانتقام، وقد أثلج صدري أنه تم إطلاق سراح عدد من الأشخاص تم ثبوت عدم مشاركتهم في الانقلاب.
فشل الانقلاب كذلك ممكن أن يزيد من قوة أردوغان، هذه القوة يجب أن توازن بنظام محاسبة وفصل سلطات واضح يحفظ على تركيا مبادئها من العدالة والحرية ويمنع تفرداً في السلطة وردة عن الحرية.
وبالمناسبة هذه المواقف المبدئية من الأحداث يجب أن ترتبط بمبادئنا نحن، وليس كردود فعل لمواقف آخرين، فإذا قلنا إن تركيا يجب أن تحاسب الانقلابيين بشدة وبنفس الوقت تضمن المحاكمة العادلة وتضمن الحرية في تركيا، هذا لأن مواقفنا ومبادئنا هكذا، ولا نخجل منها ولا يضيرنا أو يغير موقفنا إذا قالت أميركا أو جزر القمر ذلك!
4. أنظمة الطوارئ في الدولة الديمقراطية.. سلاح ذو حدين!
قوانين وأنظمة الطوارئ هي لمواجهة حالة استثنائية في الدولة يتوجّب التعامل معها بإجراءات استثنائية، وأحياناً تكون فيها مس بالحريات كنوع من حفاظ الديمقراطيات على نفسها أو الدولة (التوسع بها يمكن أن يمس الديمقراطية لذاتها)، هذه القوانين ووفقاً للظروف التي تمر بها الدولة ممكن أن تكون لازمة وقانونية وفق الدستور ولفترة محددة، وهذا موجود في الأنظمة الديمقراطية.
لا ننسى مثلاً أن فرنسا -التي تعرّف كديمقراطية عريقة- خلال التفجيرات الأخيرة استخدمت أنظمة الطوارئ لأشهر ودول أخرى كذلك، مجدداً يجب أن يكون استخدامها بحدود الحاجة لها وبأقل مس بالحريات.
الديمقراطية وقيمها وعلاقتها مع الدولة ككيان والمواطنين كرعايا وواجب الحفاظ على الكيان والرعايا والديمقراطية نفسها أمر مركّب ليس بالأبيض والأسود.
5. الاختلاف أكيد.. ولكن حدوده والقيم الضابطة له واضحة!
المعارضة التي تحترم القيم الديمقراطية وقيم الاختلاف ولديها خطوط حمر تجاه قواعد انتقال السلطة لن تقبل بانتقال السلطة بانقلابات عسكرية مهما كان خلافها مع النظام، هذا العقد الاجتماعي المتمثل باحترام قواعد الديمقراطية وانتقال السلطة واحترام القانون كقاعدة لإدارة الاختلاف هو المطلوب.
كل الاحترام للمعارضة التركية في هذه الجزئية، وكل الاحترام للحكومة، ويجب على الجميع، وعلى رأسهم الرئيس أردوغان، المحافظة على هذه القيم والقواعد.
(ونحن كعرب في كل مكان يجب أن يكون لدينا عقد اجتماعي لإدارة الاختلاف وحدود وضوابط لتعاملنا، ويجب العمل على صياغة ذلك).
أخيراً يجب أن لا نستعجل بتحليل ما حدث في تركيا، وعلى الباحث في الشأن التركي أن يفحص بعمق أسباب الحراك ضد الانقلاب وجمع أوراق "الليجو"؛ لتكون الصورة كاملة، كما أنه لا يمكن التقليل أبداً من أهمية صد الانقلاب وضرورة ذلك، بغض النظر عن مسببات مناهضة الانقلاب.
المسببات مختلفة، فمن الممكن أن يكون رد الفعل نابعاً بالفعل من إيمان بالحرية والديمقراطية وإيمان بالحرية والعدالة، وممكن كذلك نصرة لتيار يراه الناس حاملاً للإسلام الوسطي أو لبعض القيم.
وممكن كذلك أن السبب غير ذي صلة بما ذكرت، وإنما أناس أرادت أن تحافظ فقط على المكاسب الاقتصادية، بغض النظر عن حرية الاختيار (مع أن هناك أبحاثاً تربط بين مستوى المعيشة والديمقراطية)، وممكن أن يكون حباً بقائد كارزماتي أو بغضاً بآخرين.
كما أنه من الممكن أن الانقلابيين لم يعدّوا جيداً لانقلابهم، ولذلك ببساطة فشلوا.
كل هذا وغيره ممكن وبحاجة لفحص وبحث علمي رصين، ولكن الأمر المهم أن الانقلاب غير مقبول، ورائع وجدير بالاحترام كل مَن قاومه وأسقطه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.