تؤشر معركة حلب الأخيرة إلى صعوبة حسم الصراع السوري بنفس القدر الدال على انهيار قوة الأسد ومرتزقة الطوائف التي تقاتل منذ خمس سنوات دفاعاً عنه بقيادة الحرس الثوري الإيراني. ساندت طائرات القيصر الروسي المتطورة حليفها الأسد مع باقي ميليشياته المذهبية في فرض حصار خانق على مسلحي الثورة السورية داخل أحياء حلب.
ففاجأهم الثوار باتحاد عسكري تشكل بمسمى جيش الفتح، ومعركة شرسة اقتحمت عبر ثلاث مراحل مواقع حلفاء القيصر وأسقطتها بسلاسة وسرعة شكلت مفاجأة حتى لانغماسيّي الثورة الذين استطاعوا كسر الحصار بعد أسبوع من بدء معاركهم، والتي حسب كلام غرفة عمليات حلب ستستمر حتى مواصلة السيطرة على بقع أكبر في عمق مواقع النظام داخل المدينة وفي أحيائها.
وهنا يأتي التساؤل إلى أين سينتهي اندفاع الثوار داخل حلب؟ وإن كان سيتوقف عند ما حققه من مكتسبات في المعارك الأخيرة أو تواصل حتى النهاية في إنجاز الهدف الذي تحدث عنه الثوار بداية بإنهاء الوجود الأسدي التام في المدينة، مستغلين حالة التهلهل والضعف والرعب التي تحلت بها ميليشيات النظام، والتي بدت جلية في معركة كلية المدفعية التي تعد إحدى أكبر قلاعه العسكرية في سوريا، وليس في حلب وحدها، بما تحتويه من أسلحة ثقيلة ومدفعيات وذخائر تكفي لسنتين، إضافة لمئات المقاتلين المنتمين للشبيحة و"حزب الله" وغيرهم من مرتزقة عراقيين وأفغان، لم تستطِع هذه الميليشيات الصمود فترة طويلة واكتفت كل منها بالهرب المذل وكيل الاتهامات بالتقاعس والضعف على بعضها البعض، خصوصاً تلك التي تبادلها قوات النظام وميليشيات حزب الله.
معركة حلب الأخيرة بلا شك تثبت أن قوات الثورة السورية تستطيع خلق انتصارات كبيرة في حال توحدت صفوفها وعقدت النية على حسم معارك مفصلية تعطيها زخم سياسي وتجعلها لاعب أساسي يفرض قوته العسكرية على الأرض، وهذا التغير في شكل الثوار وانتصارهم يرسم من ورائه إرادة قوى إقليمية على تعزيز قوة الثورة السورية ومنعها من الهزيمة التي كادت تحيق بها فيما إذا سقطت مدينة حلب في أيدي قوات النظام.
فهذه القوى وتركيا بالخصوص تعي تماماً حجم الخطر والخسارة الاستراتيجية الكبرى لسقوط المدينة المحاذية لحدود تركيا، والتي وجدت نفسها أمام كابوس دويلة كردية في جوارها، فرضته الحرب الأهلية والقرار الأميركي الداعم بقوة لخلق هذا الكانتون ضارباً بعرض الحائط مصلحة الأتراك ووحدة الجغرافيا الوطنية السورية، لكن هذه الأطراف ما زالت مقيدة بعدم الانجرار كثيراً في حسم المعارك على الأرض لصالح الثورة، فيما يبدو منها حفاظاً على المراوحة المتمثّلة بقاعدة اللاغالب أو مغلوب، وترك رسم الحل بنظرية الحل السياسي/السلمي ضمن رؤية القوى الكبرى في روسيا وأميركا.
لا تزال معركة كسر الحصار عن حلب مستمرة وقد يحسن الثوار صنعاً إذا ما استمروا حتى النهاية في بسط سيطرتهم على كامل أحياء وسط المدينة، مستغلين انهيار دفاعات النظام وتردي معنويات مقاتليه، فسيطرتهم على مركز المدينة وإخراجهم للأسد منها، تجعله يخسر إحدى أكبر أوراقه، فيما تعطيهم ميزة استراتيجية مهمة في خلق قاعدة برية واسعة تربط إدلب بحلب ومناطق أخرى، وقد تمكنهم من خلق مناطق آمنة لهم وللمدنيين، فحلب كثاني أكبر مدينة بعد العاصمة وما كانت تمثله من عاصمة اقتصادية سورية، تمثل توازناً مهماً أمام النظام الذي يسيطر على دمشق ويستغل هذه السيطرة لأبعد الحدود في سبيل الإبقاء على أوراقه السياسة وتعويمه كطرف أساسي يرفض الخروج من معادلة الحرب والسلام.
معركة حلب والعمل على دحر ميليشيات الأسد عنها (وإن كان صعباً)، إلا أنه يبقى إنجازاً هاماً يسجل لمصلحة السوريين وثورتهم التي دفعوا لأجلها أثماناً باهظة كلفتهم الموت والجوع والتشرد، وعودتها لحضن الثوار ضمانة لهم ليحققوا أهدافهم في التخلص من عقود الطغيان والديكتاتورية التي مارسها نظام الأسد الطائفي عليهم، فهل تتحقق الأماني إن تجلى العزم والإرادة، ولم تعارض قوى الإقليميين مؤيدي الثورة المتأثرين دائماً بملزمات سياسية مشوشة ومختلة أنتجتها رؤية الأميركيين والروس عبر سنوات فائتة في مقاربتهم للصراع في سوريا؟
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.