أقتبس بعض الكلمات التي كتبها المفكر الإسلامي حسن الترابي -رحمه الله- في "فقه المرحلة والانتقال من المبادئ إلى البرامج"؛ إذ يقول: "ثم إن المسلمين يفزعون جداً من الحرية، حتى الذين يدعون إلى فتح باب الاجتهاد مثلاً، وإذا جئت برأي جديد -وهو بالطبع نتيجة لازمة للحرية- قامت الدنيا كلها: من أين أتيت بهذا؟ ومن أين نقلته؟ ولم نسمع بهذا في آبائنا الأولين!". كلمات ذهبية يدعونا فيها الدكتور إلى تحرير عقولنا من الأفكار الواهمة، وإلى إعادة النظر في طريقة تفكيرنا واعتقادنا عن الحرية، ليؤكد لنا أن الحرية هي أصل الدين وأصل العلم وأصل الفكر، بل هي أصل كل شيء، فالحرية هي أغلى ما نملك في حياتنا، فإذا ما فقدناها، فقدنا حياتنا وأصبحنا أمواتاً داخل أجساد حية.
إن كل الحريات مقدسة في دين الإسلام، وعلى رأسها الحرية الدينية والاعتقادية، فالعلاقة بين الشخص وربه علاقة مبنية على الحرية الخالصة؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ويقول أيضاً: "لا إكراه في الدين"، إذاً فأساس الدين هو الحرية، فلن يأمرنا الله بعبادته دون أن يكون لنا الحرية في اختيار ذلك، ثم يأتي أساس الحساب والجزاء مبنياً على هذا الاختيار، فللإنسان الحرية في أن يختار دينه وطريقة تفكيره واعتقاده من دون أن يتعدى على حرية الآخرين.
والمشكلة تكمن في الذين نصّبوا أنفسهم مكان الله سبحانه في التشريع، فأقاموا العقوبات ليصدوا الناس عن حرية اختيار عقيدتهم، فإذا ما اعتنق فرد من المجتمع ديناً غير الذي يدينون فيه؛ انكبوا عليه باللعنات، وأحلّوا دمه، ونبذوه، حتى يرجع إلى دينهم، أو يتبع أهواءهم التي تسيطر عليهم، فإن كان هذا فهمهم من الدين، فأين الحرية التي يدعون إليها وينادون باسمها؟
إن أصل المشكلة التي تدفع كثيراً من الشعوب إلى الخوف من الحرية، إنما تنشأ من دوافع خارجية وداخلية، فسياسة الظلم والقمع التي مورست على الأفراد والمجتمع طيلة العقود الماضية، دفعت الشعوب إلى الاستسلام والخنوع وتولد الانهزام الداخلي ثم تقبله، إضافةً إلى الظروف المعيشية التي تعيشها الشعوب، فقد لعبت دوراً كبيراً في تضييق الخناق عليهم، فلا يجد المرء إلا لقمة عيشه ليقاوم بها، فيمتنع عن طلب حقوقه خوفاً من أن يُحرم رزقه.
أما السبب الداخلي الذي يُفزعنا من إحداث تغيير في حياتنا، هو كرهنا للخروج من منطقتنا الآمنة، ومن توارد الأفكار المختلفة والخارجة عن نطاق مألوفنا، فيصبح التغيير والتجديد باباً موصداً نخشى أن نفتحه أو حتى نطرقه، وهكذا نظل على نهج السابقين، مغشياً على عيوننا متعثرين في حياتنا.
وتقوم المجتمعات الإنسانية على أساس الحرية في مختلف نواحي الحياة، فإذا ما أُجبرت الأمم على الطاعة كراهةً، فلا بد أن يأتي يوم ليسود العصيان على المجتمع، ويكون التمرد سيد الموقف، ولن يكون أحدٌ قادراً على الوقوف في وجه تلك الشعوب.
فما زالت هناك فئةٌ من الناس حالها كحال المثل القائل: "لو أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات"، فهؤلاء تضيق أنفسهم من الحرية، فما يلبثوا حتى يقروا بأنهم عبيدٌ لأسيادهم، يخنعون لهم، من أجل أن يقتاتوا على الفتات الذي يلقونه إليهم، وهكذا يبرز الفراعنة في المجتمع، فيتخذون هؤلاء العبيد جسراً ليخلدوا على عروش البلاد، منكرين بذلك حقوق العباد، فلا حرية للسفر ولا حرية للكلام، فمن اعتنق حرية الكلام، فسوف يُسجن ويُعذب وقد يُهجّر من بلده، وهذا درب المفكرين والعلماء والساسة والأفراد الذين انتفضوا لنيل حرياتهم، فخلّدهم التاريخ على جبهته، ليكونوا نبراساً لمن خلفهم.
نعم، لكل فرد حرية الرأي والكلام، وله أن يعبر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته بالشكل الذي يريد والصورة التي يبغي، فإن استطال على أحد أو اعتدى على حرية غيره فهنا تسقط حريته، فالحرية تنتهي بالاعتداء على حرية الآخرين.
أما الخوف الأكبر الذي يؤرق منام المجتمعات العربية هو تحرير المرأة من براثن العادات والتقاليد المجتمعية، فإذا ما أخذت المرأة حقوقها ومارستها بحرية، برز دورها في السياسة والدين والعلم والفلسفة وغيرها من مسالك الحياة، وقد تأخذ مكان الرجل في بعض الأحيان، وهذا ما يخشاه المجتمع الذكوري ويسعى إلى عدم تحقيقه وإيجاده على أرض الواقع. ولهذا السبب، ما زالت المرأة العربية تعاني من نقص الحريات، بل تكاد تنعدم حريتها في كل شيء، فالرجل يريد أن يسيطر على حرية الاعتقاد والتفكير للمرأة؛ ليرى نفسه خليفة الله في الأرض، فيشرع ويأمر وينهى عن فعل الأشياء وكأنه هو الوصي عليها، أما المجتمع فله من الحجج والمبررات ما يمنع المرأة من نيل حريتها، كحرية العمل واختيار الزوج والسفر، مدعياً أنه ليس من العرف والتقاليد فعل ذلك، ولم نعهد هذا في أسلافنا الأولين.
إذاً، كيف ستنعم المجتمعات بالحرية، في حين أن أصل المجتمع وأساسه -وهي المرأة- محروم من أكثر حقوقه وحرياته، وبهذا يتربى الأطفال على الخوف من طلب الحرية، وتقبُّل الذل كسبيل للعيش، وهكذا لن تنهض هذه المجتمعات ولن تسودها الحريات، ما دام أن المرأة فيها محرومة من حريتها في أمور حياتها.
وأختم بما أقتبسه عن الدكتور وضاح خنفر (رئيس منتدى الشرق)، حين كتب عن مدى الحرية الفكرية التي عاشها المسلمون في القرون الوسطى أو العصور الذهبية؛ إذ يقول: "شهدت قرون الإسلام الذهبية جدلاً بديعاً بين مختلف هذه التيارات، وصنع حداثة متجددة وتنويراً مبكراً، ووعياً جريئاً لم يخشَ البحث في أي شيء، ستُصدمون إن قرأتم الأعمال المؤلَّفة في القرنين التاسع أو العاشر؛ وسترون إلى أي مدى كان فلاسفتنا منفتحين، في مناقشة العلاقة بين البشر وبين الله، وبين الطبيعة وبين الله، لقد كان هذا النقاش بالفعل سابقاً لعصره".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.