التسويق السياسي.. بين أحلام أوباما ومخاوف ترامب

اليوم ستطل علينا الانتخابات الأميركية قبل متم السنة الحالية، مستحضرة معها سباقاً محموماً بين صناع الحملات الانتخابية للمرشحين الرئيسيين كلينتون وترامب. يبدو أن استراتيجية التسويق السياسي الناجعة هذه المرة، هي التي انتهجها المرشح الجمهوري ترامب. استراتيجية تعتمد على نظرية "الخوف"، التي سطع نجمها هذه السنة بقوة، حيث أعطت أكلها مع حملة البريكسيت البريطانية التي استطاعت إقناع الإنجليز بمغادرة السفينة الأوروبية خوفاً من موجات الهجرة واللجوء.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/01 الساعة 04:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/01 الساعة 04:17 بتوقيت غرينتش

لم تعد استراتيجيات التسويق حكراً على المنظمات التجارية فقط، بل صار لها أثر بالغ على طريقة اشتغال باقي المنظمات غير الربحية، الحكومية منها وغير الحكومية. فقد أصبحت المؤسسات غير الربحية معتمدة بشكل كبير على ما وصل إليه علم التسويق من تطور ملموس، فلم تعد تعتمد على طريقة العمل القديمة، بل صارت تأخد بدراسة الشرائح المجتمعية المستهدفة وتحديد نطاق اشتغالها وتقسيم "سوقها" إلى مناطق سكانية وجغرافية، تختار منها الشريحة المستهدفة فتخصها باستراتيجية محددة وبسياسات تواصلية منتقاة، تمكنها من بلوغ "عملائها" لكي تحقق في الأخير أهدافها، وإن كانت غير ربحية.

وكباقي المنظمات غير الربحية، فالكيانات السياسية لم تحِد عن هذا الاهتمام المتزايد بعلم التسويق. لقد صارت الأحزاب السياسية والسياسيون عموماً، يؤمنون بقدرة علم التسويق على تمهيد الطريق لهم نحو قلوب وعقول مستهلكي بضائعهم، تلك البضائع ليست سوى تلك الأفكار والبرامج السياسية والتوجهات الأيديولوجية التي يريدون تطبيقها من خلال تبوئهم للمناصب التنفيذية عبر الانتخابات والاقتراعات المحلية والوطنية. لفهم هذه الفعالية الكبيرة للتسويق السياسي يجب العودة إلى التجربة الأميركية، فالأميركان هم مؤسسو علم التسويق ومن البديهي أن يكونوا أول مَن يطبقونه على الميدان السياسي.

أبسط مثال هو العلامة السياسية البارزة "أوباما"، فلا يمكن أن ينسى أي منا شعار Yes we can، ذاك العنوان الذي خاض به الرئيس الأميركي باراك أوباما حملته الانتخابية، والتي مكنته من الظفر برئاسة أقوى دولة في العالم كأول رئيس أسود البشرة. لعبت استراتيجيات التسويق السياسي دوراً كبيراً في ذلك النجاح، فقد اعتمدت حملته على دراسة عميقة لما يمكن تسميته بالسوق الانتخابية، واستطاعوا تقديم استراتيجية تقوم على سياسات تواصلية فعالة ومبدعة، أمكن لها أن تغزو عقول الناخبين الأميركيين وتربح أصواتهم.

هذا النجاح الباهر والاستثنائي يعود إلى استراتيجية محكمة، بدأت بقراءة جيدة ومعمقة لـ"السوق" الانتخابية الأميركية واختيار تموضع استراتيجي يعتمد على التغيير الإيجابي وسياسة تواصلية تعتمد على القرب من الناخبين، خصوصاً الشباب منهم، وذلك من خلال الإنزال الكبير على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي واستمالة دعم عدد كبير من نجوم هوليوود. ولنتذكر الكم الهائل للفيديوهات على صفحة أوباما على اليوتيوب، والتفاعل الكبير على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي كمثال.

لقد استطاع أوباما آنذاك أن يصنع له هوية خاصة به، تنافس أكبر الماركات التجارية. صار له شعار وإعلان ورمز مميزان كأي علامة تجارية. اسمه صار منافساً كبيراً في القيمة لأشهر الأسماء التجارية في العالم وشعاره "نعم نستطيع" صار لا يفارق الألسن بل وأضحى ملهماً لعدد كبير من السياسيين حول العالم.

النجاح الكبير لأوباما آنذاك كان أحد أهم تجليات القوة المتزايدة للتسويق السياسي والقدرة الهائلة لهذا التخصص العلمي في تحقيق نتائج باهرة في "السوق" السياسية. وكما الشأن بالنسبة للتسويق على العموم فالدراسات الأولية تكتسب أهمية بالغة. وفي الميدان السياسي فأمران يلعبان دوراً كبيراً في نجاح الاستراتيجية التسويقية وهما القراءة الجيدة للواقع ودراسة الجوانب النفسية والسلوكية للناخبين. الهدف الكبير من خلالها الوصول إلى معرفة سيكولوجية السوق المستهدفة واتجاهاتها، وبالتالي وضع اليد على أفضل الوسائل وأقصر الطرق نحو عقل الناخب.

التسويق السياسي يعتمد أساساً في الدراسات الأولية على علم النفس والتحليل النفسي وسيكولوجية المجتمعات. فبمعرفة سلوكيات الأفراد وتوجهات الرأي العام، يسهل على المنظمات السياسية إعداد الاستراتيجيات الكفيلة بتوجيه الرأي العام وغزو السوق السياسية، وبالتالي كسب التعاطف والتأييد والأهم الحصول على أصوات الناخبين.

بالرجوع إلى المثال السابق عن حملة أوباما، فقد كانت الاستراتيجية آنذاك تقوم على تصدير خطاب إيجابي وحالم، يعد الأميركيين بإخراجهم من الجو المشحون بسبب التورط في الحروب الخارجية والكساد الاقتصادي، ووعدهم بمستقبل مغاير يعيد لهم الرفاه الاقتصادي والعدالة الاجتماعية من خلال الاهتمام بالتأمين الصحي المجاني للجميع. كان هذا الخطاب أفضل تنزيل للقراءة السيكولوجية للمجتمع الأميركي آنذاك، حيث إن الأميركيين كانوا بحاجة ماسة للتغيير والأمل. حتى إن اختيار مرشح ذي بشرة سوداء لم يكن اعتباطياً أو ترفاً، بل هو خيار يعتمد على تصدير صورة التغيير الناجح لأذهان الناخبين. يكفي النظر إلى عديد من الأفلام السينمائية التي صدرت قصص النجاح الأسطورية لأميركيين سود استطاعوا تحقيق النجاح وفرض الذات في مجتمع لم يستطِع القطع بشكل نهائي مع النظرة السلبية للمواطن الأسود.

اليوم ستطل علينا الانتخابات الأميركية قبل متم السنة الحالية، مستحضرة معها سباقاً محموماً بين صناع الحملات الانتخابية للمرشحين الرئيسيين كلينتون وترامب. يبدو أن استراتيجية التسويق السياسي الناجعة هذه المرة، هي التي انتهجها المرشح الجمهوري ترامب. استراتيجية تعتمد على نظرية "الخوف"، التي سطع نجمها هذه السنة بقوة، حيث أعطت أكلها مع حملة البريكسيت البريطانية التي استطاعت إقناع الإنجليز بمغادرة السفينة الأوروبية خوفاً من موجات الهجرة واللجوء.

إن تطبيقات علم التسويق في الميدان السياسي تعتمد كثيراً على دراسة سلوك المجتمعات، التي تعتبر السوق المستهدف بالنسبة للمنظمات السياسية. لكن وكما الحال بالنسبة لتسويق المنتجات التجارية، فمسألة نجاح الاستراتيجية التسويقية والسياسات التواصلية في استمالة المستهلكين (الناخبين)، لا تعني بالضرورة جودة المنتوج (السياسي) ولا صدقية الإعلانات والوعود الانتخابية.

ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد