كنت في الخامسة من العمر، حين ذهبت لزيارة عمي في مدينة القامشلي برفقة والدي، ونمنا تلك الليلة وأنا أفكر بحديث ابن عمي عن السيرك الذي يقدم عروضه في المدينة، وذهوله للدجاجة التي تقود الدراجة، والفتيات اللواتي يلاعبن النمور بلا خوف، والقرود المضحكة..
كنت أستمع إليه وقد جعلني الحماس أنام تلك الليلة وأحلم بعالم ملون، وخيمة ضخمة تحوي داخلها هذا العالم المروض من أحصنة بيضاء تحمل على ظهورها فتيات نحيلات بثياب بيضاء تشبه ثياب راقصات الباليه، ونموراً تتصرف كالقطط اللطيفة، زرافة تخرج رقبتها الطويلة من فتحة في الخيمة، استيقظت صباحاً وأنا أحلم برؤية العرض، وتجهزت للعودة..
لكن ما حدث في الطريق كان أجمل من الحلم، كان قد تجمع عدد من الأطفال أمام فتحة صغيرة في إحدى الجدران الإسمنتية ليناديني أبي كي أنظر من خلالها أسوة بالصغار المتجمعين ويا للهول إنه فيل ضخم! فيل حقيقي بقدمين ضخمتين، وأذنين واسعتين، وخرطوم طويل كان يستخدمه بكل رشاقة لالتقاط قطع الخبز التي يرميها إليه الأطفال ويضعها في فمه، ليناولني أحدهم قطعة من خبزه لأقوم برميها للفيل الجائع. أخذتها ورميتها إليه ليتناولها ويرمقني بنظرة شكر من عينيه الصغيرتين لأنطلق بعدها، تاركة خلفي الصغار وهم يطعمونه من خبز فطورهم وأنا ألتفت إليهم بين الحين والآخر.
نعم كانت القامشلي من أجمل المدن في المنطقة، وكانت حلم الجميع بالعيش فيها مدينة تحمل في صدرها قلب بلدة، تجمع على صدرها الناس من كل الأديان، والقوميات، والبلدات والقرى، تعيش فيها حراً وكأنك في مدينة كبيرة، لكن بشعور الأمان والألفة التي تعطيها لك البلدات والقرى الصغيرة، نعم كانت تجمع الثقافة،
والمعرفة، بالإضافة للطيبة المتناهية. تستطيع أن تكون سعيداً فيها سواء كنت من حملة الشهادات الجامعية، أم تاركاً مقاعد الدراسة منذ الصف الثاني سواء كنت فقيراً، أم غنياً، الجميع سيكون صديقاً لك وسيحبك، حتى سميت "مدينة الحب".
لكن أهدافي في أن أسكن فيها وأنا ابنة خمس سنوات كانت مختلفة، كنت أرغب بالإقامة قرب الفيل اللطيف! وزيارته وإطعامه الخبز. وكبرت وأنا أحلم بالسكن في تلك المدينة الحلم فهي المدينة التي نؤمها قبل العيد لشراء ثياب العيد، وقبل رأس السنة لشراء بطاقات المعايدة والهدايا البسيطة التي سنهديها لأصدقائنا، ودوماً نلتقي بأحد أقاربنا أو أصدقائنا في السوق الطويل لنقف قليلاً ونتحدث بسعادة، نعم كانت هذه المدينة تبعث على السعادة ولا أعرف لماذا كنت أحب أن آخذ تذكاراً بعد كل زيارة، بطاقة بريدية، خاتم فضي، مجلة فنية، وكأن المدينة هي من تهديني إياه.
أما ما حدث الآن بعد أكثر من خمسة عشر سنة مرت على آخر زيارة لي للمدينة، قامت أمس بصفعي بقوة لتسألني: أين أضعت الخاتم الفضي الذي أهديتك إياه؟ أين المجلة التي اشتريتها لك؟ أين بطاقتي البريدية التي لم تبعثيها حتى الآن؟ أين قلبك؟ لقد بكيت أمس لم تبكِ عيناي، بل كان قلبي من بكى، كانت خيمة السيرك الذي حلمت بها تلك الليلة، بألوانها المشرقة وكل ساكنيها بمن فيهم الزرافة، قد تمزقت وانهار الجدار الإسمنتي الذي كان يحوي صديقي الفيل، لقد مرت شاحنة الموت لتدمر تلك البقعة بمن فيها وضاعت آلاف الأحلام والأمنيات بين النار والبارود، تَيَتَّم الأطفال، وترملت النساء، وثكلت الأمهات، وبكى الرجال! وربما كان الصغير الذي أعطاني قطعة خبزه بينهم! أصبح الآن رجلاً وها هو يركض هنا وهناك ينقذ الأطفال العالقين تحت الأنقاض، ليقدم لهم الخبز الساخن في آخر هذا النهار الدامي، خبز القامشلي الحزين على الذين رحلوا دون وداع.
سؤال: لو يرى فيل السيرك ذاك ما حدث لمن أطعمه من خبزه يوماً، أكان سيعاود أكل الخبز مرة أخرى؟ إنه ليس مجرد سؤال!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.