هو شخصياً يرفض هذا كله، فقد أعلن سفّاح ميونخ هويته على الملأ: أنا ألماني. لكنهم وضعوه خارج السياق، وصنّفوه إيرانياً في البدء (إيراني ألماني حسب الوصف الساذج لقادة الشرطة)، ثم مضطرب العقل يعاني الاكتئاب، ونقطة.
كم هو طريف الزعم بأنّ فتى كهذا الألماني المسلّح هو إيراني أو تركي أو عربي، فذلك بشبه الادعاء بأنّ رئيس الولايات المتحدة كيني، والسيد ساركوزي مجري، ووزير الدفاع الكندي هندي، حسب منشأ آبائهم. وفي استدعاء منشأ الوالدين محاولة مستترة لإعادة تعريف هوية مقترفي أعمال القتل والترويع وقطع الطريق على نسبتهم إلى واقع انبثقوا عنه، بكل ما قد يستثيره ذلك من تساؤلات حساسة.
إنها نزعة العزل التي قضت بتفسير فظائع عدة شهدتها أوروبا بمتاعب شخصية لمرتكبيها فقط، بينما خضعت غيرها بشكل استثنائي لتأويل ثقافي وديني مرتبط بالمسلمين. ومَن يفتح الملفات بعناية سيلحظ متوالية لا تُخطئها العين، فما يجري غالباً هو أنّ مرتكبي الاعتداءات إما أن يتم تحميلهم على نسق ثقافي أو ديني آخر؛ أو يجري تصنيفهم كحالات فردية مضطربة بما يجعلهم استثناء من النسق المجتمعي المحلي بملامحه الثقافية والدينية المعروفة.
وفي الحالتين يحاول القوم إعفاء السياق المجتمعي القائم أو الهوية الوطنية المتخيّلة بمرحعياتها وتفاعلاتها من الفحص والمراجعة، مع إسقاط الاتهامات جميعاً على الفرد كحالة معزولة ضمن نطاق شخصي؛ أو على سياق ثقافي آخر قد يتم افتعاله على نحو ساذج وتحويله إلى مشجب لتعليق الأوزار عليه.
هذا ما يجري عادة. فإن جاء الفاعل من حي ذي كثافة سكانية مسلمة، مثل سان دوني في باريس أو مولنبيك في بروكسيل، فسيتم وضع محيطه بالكامل في بؤرة الاهتمام وتسليط الأضواء الكاشفة عليه، وستنطلق مغامرات البحث عن الأواصر الثقافية والاجتماعية التي ينبغي التحقق من أدوارها الثانوية في إنتاج حالة العنف أو الإرهاب أو حتى الجريمة، فتخضع لتأويل ثقافي وديني، فيصبح الحي بكامله موضع اشتباه، مع إطلاق تسميات مفعمة بالإثارة عليه مثل "جهادستان" أو "جهاد لاند".
يجري هذا بصفة واضحة مع مسلمي أوروبا على نحو خاص، فيحبسون أنفاسهم مع كل حفلة ترويع جديدة مكللة بالدم، خشية تحميلهم ضمناً مسؤولية ما عن جريمة شنعاء لم يستأذنهم أحد قبل ارتكابها. ومن المألوف أن يشهد اليوم التالي تصاعدا في منحى الاعتداءات المادية واللفظية على المساجد والمسلمات بصفة خاصة، دون أن يسلم الأموات في مدافنهم من حملات التشويه بشعارات عنصرية.
يجري ذلك الإسقاط الاتهامي التعميمي تحت وطأة تأثيرات متضافرة، فالمسلمون هم التعبير المباشر في مجتمعاتهم الأوروبية عن ذلك "الآخر" أو النقيض، حسب القوالب الجاهزة في الوعي الجمعي، وهم مصدر تهديدات ومخاوف تم لصقها بهم، حتى قبل "داعش" والقاعدة والخميني، وهي تأثيرات محمولة من إرث القرون الغابرة التي تراكمت فيها انطباعات الوعي الساذج والأحكام المُسبقة. ثم إنّ انطباعات تقليدية تسري عليهم، من قبيل أنّ الإسلام هو الذي يوجِّه سلوكهم فتصبح تصرفاتهم البشرية بكل ما فيها ليست إلا انعكاسا للإسلام ذاته، وكأنه المسؤول عن كل ما يصدر عنهم. ولا يجرؤ القوم بالطبع على افتعال مثل هذا التعسّف التصوّري مع أنفسهم هم، لأنّ الصورة الذاتية ينبغي أن تحافظ على نقائها، بل يُطلقون العنان لجهلهم بذلك "الآخر" ليذهب بتأويلاتهم له بعيداً عن قوانين الاجتماع الإنساني ومنطق الأشياء.
كل هذه العملية المدفوعة بحمولات ثقافية وتراكمات من القوالب النمطية والوعي الجمعي الساذج، تتعطّل عند الحالة الإجرامية العنيفة التي تنتمي بوضوح إلى السياق الذاتي، مثل مقترفي أعمال شنيعة عبر أوروبا اتضح أنهم "أوروبيون بيض". فالمأزق أنّ نشأتهم تمت في أحياء محلية معروفة، وتخرّجوا من مدارس وأكاديميات تعبِّر عن المجتمع ونظمه التعليمية وصناعته الثقافية، واستمعوا إلى الأغاني الشائعة وارتادوا دور عبادة أو مرافق ترفيهية ومراقص، وأشغلوا أنفسهم على الأرجح بما هو سائد من أنماط السلوك، وربما أفرطوا في شرب الخمر وتعاطوا المخدرات ومارسوا الجُنح ودخلوا السجون أيضاً. يتم في التداول الإعلامي والجماهيري فهم دوافع هؤلاء من خلال المجال الشخصي غالباً. وفي لحظة الحدث على الأقل، لا فرصة تُذكر لفهم هؤلاء القتلة من خلال السياق الثقافي والديني السائد، أو عبر ظواهر تخامر مجتمع الاستهلاك، لأنه "مجتمعنا" ببساطة.
في فرنسا مثلاً لم تخضع النسخة العلمانية المرجعية، أو اللائكية بكل محفوظاتها المقدسة، لأي عملية فحص بعد أعمال مروِّعة انبثقت من صميم المجتمع، بما فيها عمليات إطلاق نار لم يكن مقترفوها من المسلمين، بينما يُطلب من المسلمين حصراً، عبر لغة استعلائية غالباً، مراجعة دينهم و"إصلاحه" أو حتى نقضه وتفكيكه، مع كل حفلة ترويع يقوم بها أحمق محسوب عليهم.
اتضحت هذه المعضلة في تطورات جريمة ميونخ، التي تسرّع بعضهم بإلصاق صفة العمل الإرهابي بها، فتلاحقت بلاغات الاستنكار عبر العالم، ثم جرى سحب الوصف لتصبح واقعة إطلاق نار وحسب، قام بها مراهق "يعاني الاضطراب العقلي". ماذا لو أنه أطلق صيحة "الله أكبر" ولو مرّة واحدة، فهل ستبقى رواية الاضطراب العقلي على حالها؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.