السماء الوردية في نوافذ المكتب الغربية أعلنت هبوط المساء، بعد قليل، أي في الثامنة والنصف تقريباً، سيرتفع الأذان من المسجد القريب.
حان وقت الانصراف.
سألت زميلي عن إيميل أرسلته له، فرد مبتسماً: أي إيميل؟ هناك انقلاب بدأ قبل قليل.
عدت إلى الكمبيوتر، وبدأت ليلة الأرق والمجهول، والتيه الكبير بين مصادر الأخبار والكذب والشماتة.
متابعة الأحداث الكبيرة من الكنبة قد تكون ممتعة، لكن الركض وراء تفاصيلها بدقة في غرفة الأخبار، نوع من عذاب الحياة الدنيا.
فتحت البث المباشر لقناتَي الجزيرة القطرية، والعربية السعودية، لألتقط زاويتي الرواية، وتنقلت مثل المجنون بين ما تنقله وكالات الأنباء، والعناوين القليلة التي ظهرت في المواقع التركية الناطقة بالإنجليزية.
الانقلاب بدأ بإغلاق جسر إسطنبول على البوسفور، وتحركات لدبابات في بعض المنشآت الحيوية، والحدث الأول كان قصفاً مروحياً لمركز تدريب القوات الخاصة في منطقة غولباشي بأنقرة، وبدأت التكهنات: إنهم ضباط تابعون للداعية المعارض من أميركا فتح الله غولن، وربما تشارك قوى سياسية معارضة.
ولا يوجد تصريح من أردوغان ولا معلومات عن مكان وجوده، بدأنا نفكر في أحوالنا، يقع المكتب في مبنى إداري، محصن بشركة أمن وبطاقات مغناطيسية وأبواب فولاذية، لكن القلق تسرب إلى نفوسنا، فالانقلاب يعيد فك وتركيب كل شيء، بما فيه وجودنا في هذه الوكالة الإخبارية.
وصحونا على الواقع: نحن أجانب في بلد يعيش حالة انقلاب.
الكاميرات تنقل إيقاعاً عادياً للحياة في مناطق إسطنبول، وشارعنا الصغير يثبت ذلك، رغم أنه جزء من حي هادئ بطبعه، على بعد عدة كيلومترات من مطار أتاتورك.
أجمع المحللون السياسيون على كل الشاشات على أن هناك انقلاباً عسكرياً، وظهر رئيس الحكومة بن علي يلدريم ليؤكد أن أردوغان في مكان آمن، وأنه ما زال يدير البلاد، رغم التأكيد على احتجاز رئيس الأركان خلوصي أكار.
الجيش يحاصر الوزارات ومقار الأمن ومقر مكافحة الشغب، أي جيش، المتمرد أم الموالي؟. يتضح بعد قليل أن قوات الانقلاب هي التي تحاصر؛ لأن المعركة الميدانية ستكون بين دبابات الانقلاب، والشرطة لا سيما القوات الخاصة.
السؤال الأساسي في أي انقلاب هو قوة المجموعة التي تنفذه، ونسبتها إلى حجم الجيش كله، فهل تحرك قطاع من الجيش، أم قيادة الأركان بأكملها؟ لا أحد يعرف.
احتلت قوات الانقلاب مبنى التلفزيون الرسمي في أنقرة، وأجبرت مذيعة قناة TRT التركية أن تذيع البيان رقم واحد، الذي تعهد باستعادة الديمقراطية، "بعد أن أضرت الحكومة بحكم القانون والديمقراطية والنظام العلمانية"، ثم تلقت مواقع تركية نص البيان على رسالة إلكترونية.
كل هذا والفضائية التركية الرسمية لا تغير برامجها المعتادة.
أخيراً ظهرت أخبار غير مؤكدة أن أردوغان سيقول كلمته بعد قليل، وأن قوات الشرطة تحيط بمنزله بحي أسكودار بإسطنبول لحمايته، وهو الآن في الطريق إلى هناك.
إلى هناك، إلى إسطنبول؟
عندما قررت قيادة الانقلاب حظر التجول وإغلاق المطارات، انتبهنا مرة أخرى إلى أننا مجموعة الصحفيين في هذا المكتب القريب من المطار، أجانب في بلد يغلي بكل الاحتمالات.
نصح زميلي بأن نحكم إغلاق كل الأبواب، وأن نتوقع كل شيء، سألته: مثل ماذا؟ من يفكر في مكتب إعلامي أجنبي في ليلة كهذه؟
رد ببرود أعصاب: لا يمكن أن نعرف من يجوب الشوارع الآن، وأية قوائم يحملها في جيبه.
قالها وواصل عمله على شاشة الكمبيوتر بهدوء، ودخلت في مزيد من القلق.
أسدلنا الستائر، فاختفى قمر حيران غير مكتمل في الأفق الغربي.
الأبواب الحديدية والنوافذ الضخمة تفصلنا عن شوارع هادئة، غارقة في الظلام والصمت، بينما تضج غرفة الأخبار بالصخب كله، رغم أننا أربعة أشخاص فقط، لكنه انهمار الصور والأصوات والمعلومات بسرعة الضوء.
رئيس الوزراء يهدد بأن الشرطة سترد على تحركات الجيش بكل حسم، وبعد دقائق ظهر أردوغان في مكالمة بالفيديو.
كان مرهقاً، غاضباً، وهو يدعو جموع الشعب إلى التجمع بالميادين والشوارع والمطارات لدعمه، ولمواجهة الحركة الانقلابية، سألنا أنفسنا هل يعني لجوءه للناس أنه فقد السيطرة على قيادات الجيش نهائياً؟
قال: الانقلاب مدعوم من جهات موازية للجيش، ومن قام بهذه العملية سيدفع الثمن، الانقلابيون لم ينجحوا على مر التاريخ.
إذن الشرطة ستواجه الجيش، كما قال رئيس الوزراء، هل ستكون حرب جيش ضد شرطة؟ ومؤيدو أردوغان سينزلون الشوارع بعد قليل، فماذا لو نزل مؤيدون للجيش على طريقة المواطنين الشرفاء في بلادنا العربية؟
قبل أن نحاول الإجابة عن السؤالين، نقلت الشاشات صور الشرطة والجيش في ساحة تقسيم في حالة تأهب على طرفي الساحة الخالية.
لم نصدق كلمات أردوغان التي تعهد فيها بمحاسبة "المتورطين"، ولا تأكيدات يلدريم بأن حكومته ما زالت تقود البلاد، لأنها الكلمات المعهودة من المسؤولين في مثل هذه الحالة، وانتظرنا ما تقوله الشوارع والمواجهات.
قال أحد الزملاء إن هناك مشكلة إضافية بعد حظر التجول، هي أننا سنبقى في المكتب بلا طعام حتى الصباح، تجرأ زميل وأخرج كل ما في الثلاجة، بقايا تبولة، علبة عصير برتقال، وباذنجان وفلفل مشويان.
تركنا الطعام على المائدة دون أن نمسه، وعدنا إلى الشاشات.
اشتباكات بالقنابل اليدوية بين الجيش والشرطة في أنقرة، ومروحيات الانقلاب تفتح النار على أهداف متعددة في مدن تركيا، وكل الاحتمالات تؤدي إلى ليلة دامية، لكن بأية درجة؟
جاءت الإجابة الأولى من الشارع.
هرعنا إلى النوافذ لنستطلع الأصوات الصاخبة التي وصلت إلينا في الدور السادس، كانت مواكب السيارات تتوالى في اتجاه المطار، تطلق الأبواق والهتافات، بعضهم كان يجلس على سقف السيارة، ويلوح بغضب، ويصرخ.
وقبل أن يختفي الموكب، يظهر غيره في بداية الشارع، على خلفية الأذان من المسجد القريب.
وقتها أحسست أنني أرتعش من الرهبة والأمل.
كنا في منتصف الليل، أي قبل أذان الفجر بأكثر من ثلاث ساعات، وصوت المؤذن يصدح مضيئاً بالحماس: حي على الفلاح.
بعد نصف ساعة من مرور المواكب في اتجاه المطار، ظهر على شريط الأخبار أن بعض الدبابات انسحبت من واجهة المطار أمام زحف الناس، بينما كان رئيس المخابرات، وهو موالٍ للرئيس، يؤكد للإعلام أن الانقلاب فشل، لكن السيطرة على الأمور تحتاج إلى بعض الوقت.
هل نصدق هذه المرة؟
مع صورة الآلاف على الشاشات، كنا نتابع في نوافذنا أمواج السيارات التي تهب في اتجاه المطار، والتي منعها الزحام من الوصول، فبدأت الجماهير تترجل، وتواصل الزحف سيراً على الأقدام، حيث تزيح الدبابات بأصابع اليدين، وتستقبل زعيمها.
تأكدت أخبار قرب الثانية صباحاً بأن القسم الأكبر من الجيش لم يشارك في الانقلاب، ورفضت كل أحزاب المعارضة ما يجري، وتضامنت مع الرئيس المنتخب، وقال حزب الشعب الجمهوري المعارض: سنقف مع الشعب.
نقلت الكاميرات صوراً لحشود غاضبة، وتحدث معي أحد الزملاء من منطقة باكيركوي المجاورة، وسمعت كلماته بصعوبة في صخب الهتاف والأبواق. قال إن المتظاهرين يذيعون كلمة أردوغان الهاتفية من مكبرات الصوت، ويواصلون الزحف نحو المطار وهم يهتفون: الله أكبر.
المطار، تلك المباني التي شحبت أنوارها في نوافذنا، محاط بدائرة متوهجة بالأحمر، هي أضواء السيارات العالقة في الزحام الرهيب.
حرب في أنقرة، مقاتلات تحلق على ارتفاع منخفض، وخمسة انفجارات في محيط التلفزيون الرسمي. اعتقلت القوات الخاصة عناصر الجيش التي سيطرت على مبنى التلفزيون، وأسقطت مقاتلات F16 مروحيات تابعة للقوات الانقلابية. بعض عربات الجيش التابعة للانقلاب ما زالت تحاصر مديرية الأمن العام في أنقرة، إنها حرب الجيش والشرطة.
قوات الانقلاب أطلقت النار على مظاهرة داعمة لأردوغان في جسر إسطنبول.
إنها حرب الجيش المتمرد على الناس.
هبطت الحشود إلى الشوارع، وتوالى سقوط القوات المشاركة في الانقلاب، وظهر إلنور شفيق كبير مستشاري الرئيس، ليؤكد أن محاولة الانقلاب فشلت، وبدأت الأخبار تتحدث عن هروب بعض جنود الانقلاب تحت ضغط الجموع، تاركين أسلحتهم، وسيطرت الشرطة.
هل انتهى الكابوس؟
كيف نهدأ وقد بدأت مقاتلات F16 تصرخ قريباً من سطح المبنى، وتخترق حاجز الصوت، على نحو جعلنا في قلب كل تلك الحروب؟
لكننا التقطنا أنفاسنا عندما رأينا أردوغان على الشاشة يتحدث للصحفيين في المطار، فعرفنا أن الطائرات جاءت لحراسته، لا للمشاركة في معركة جوية، لكن الزميل نفسه همس قائلاً: حتى لو طائرات حراسة، هناك هامش للخطأ الإنساني وهم يقتربون لهذا الحد من المباني.
مع الأضواء الأولى للصباح عادت الابتسامة، وفتحنا الأبواب، وبحثنا عن الشاي والقهوة، اقتربت مروحية من المبنى أكثر من مرة، مصحوبة بأصوات رصاص كثيف، لم نعرف هل تصدر عنها، أم أن هناك مَن يصوب عليها من الأرض.
لم نعد نكترث، فالزحام اختفي من الطرق المحيطة بالمطار، ورجع الناس إلى بيوتهم بعد أن أعادوا الدبابات إلى ثكناتها.
النهار طلع على مدينة هادئة، بريئة، كأنها لم تعش ليلة من الاحتمالات الدامية، كأنها لم تهشم بأنفاسها الغاضبة آليات التحرك الانقلابي ودباباته، ولم تشارك الناس هذه الليلة الأسطورية من أقصى المدينة غرباً، إلى أطراف غازي عينتاب في الجنوب الشرقي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.