الدرس الشعبي التركي الأهم: الدفاع عن الديمقراطية ضد الانقلابات العسكرية

لقد وقف الشعب التركي بكل طوائفه المؤيدة والمعارضة، والأحزاب السياسية وقادتها، وقفة رجل واحد مع المبادئ والقيم، دفاعاً عن الديمقراطية والحرية، وحق الأمة في الاختيار، والدفاع عن أصواتهم ومكتسباتهم، والدفاع في الوقت نفسه عن الجيش ومكانه الطبيعي في الثكنات للدفاع عن الأوطان وحفظ حدودها ضد الأعداء، ولا شأن له بالسياسة والحكم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/19 الساعة 05:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/19 الساعة 05:33 بتوقيت غرينتش

ضرب الشعب التركي الذي انتفض وخرج عن بكرة أبيه، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، شيبة وشبَّاناً، مثلاً عظيماً في تقديم المبادئ والقيم ووضعها في مكانها اللائق بها فوق الجميع: الأفراد، والمناصب، والأحزاب، الاختلافات السياسية، والمعارضة الحزبية، لقد قدموا مصلحة الوطن، ودافعوا عن مُكتسبات وثمار الديمقراطية اليانعة، التي تذوقها الجميع على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والحزبية.

كان الوعي بالحكم المدني راسخاً في داخلهم، وتجارب الانقلابات العسكرية المريرة التي مرت بها تركيا، والثمار المرة الفاسدة التي تم جنيها جراء هذه الردَّات عن الديمقراطية واضحة تماماً أمام أعينهم.

لذا لم نجد صورة واحدة مرفوعة للرئيس أردوغان؛ مع أهمية تأمين والحفاظ على حياة رئيس الدولة في هذه الأوقات العصيبة؛ إذ قتله أو غيابه يعني انتصار الانقلاب أو تثبيت أركانه حتى ولو لوقت ليس بالقصير، كما لم نشاهد راية واحدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم مع كثرة أنصاره، ولا لغيره من الأحزاب، كما لم نسمع أي هتاف باسم أردوغان ولا لغيره، كل ما رأيناه أن الأتراك رفعوا راية واحدة، وتجمعوا حول علم الدولة الذين التف الناس حوله على اختلافاتهم، ولم نسمع سوى النشيد الوطني والهتافات الوطنية، ورأينا الشباب ينام أمام الدبابات في الشوارع ليحول بجسده بينها وبين الانقلاب على وطنه، ورضى بأن يُدهس هو ولا يُداس وطنه.
مع حضور المبادئ، ورسوخ عقيدة الدفاع عن مكتسبات الديمقراطية والحرية وتقدم الأوطان، ومع تعرض الوطن للقرصنة والاغتصاب من فوق أظْهُر الدبابات؛ تغيب الشخصنة، وتسقط الرايات الحزبية، والهتافات بحياة فلان وروح فلان.

لا شيء أهم عند الشعوب الحرة من الوطن والخوف من خطفه؛ فالأوطان فوق الجميع، والشعوب ومكتسباتها أهم من كل مؤسسات الدولة وجيشها في المقدمة، ولو قامت الجيوش بالخراب والانقلاب وتدمير الأوطان وبيع ضمائرهم للخارج، وتقديم حظ النفس على حظوظ الوطن والشعب، فليس لها سوى الدرس التركي الذى لقنه الشعب للمنقلبين بالضرب والإهانة، وليس لهم وصف يُوصفون به سوى وصف الرئيس التركي رجب أردوغان ورئيس حكومته بن علي يلدرم : "بأنهم إرهابيون لا يستحقون شرف الانتماء للجيش، ولا شرف ارتداء البزة العسكرية".

وفي غزوة أُحد صرخ الشيطان، أو نادى منادٍ:" بأن محمداً قتل"، فأصاب الناس ما أصابهم من الحزن واليأس، وتركوا الميدان وهموا بترك المعركة والعودة إلى المدينة، حتي وقف أنس بن مالك بكل صلابة وقوة يدافع عن بقاء العقيدة والقيم والمبادئ التي غرسها فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا ما بأيديهم: "فما تصنعون بالحياة من بعده؟! فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله"، ونزلت آيات القرآن لتعلم المسلمين وتغرس فيهم الدرس: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"، وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين به سبحانه لا بغيره، والارتباط بالعقيدة، وبالقيم والمبادئ، لا بالأفراد حتى وإن كانوا أنبياء، فهم بشر يموتون ويفنون، وأن الشعوب مسؤولة بالحفاظ على قيمهم ودينهم وأوطانهم كما الأنبياء والقادة سواء بسواء.

ووقفت الأحزاب السياسية مع اختلافاتها المؤيدة والمعارضة لسياسة أردوغان، مع الشعب في خندق واحد، وكذلك اليساريون والعلمانيون المخاصمون لأردوغان، كانوا أكثر وعياً حين خرجوا سريعاً متضامنين ورافضين لتدخل الجيش في الحياة السياسية ومعارضين للانقلاب على الديمقراطية، والمبادئ الوطنية، فقد ندد كمال كليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني، وهو حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، بمحاولة الانقلاب الفاشلة، وقال خلال كلمة له أمام البرلمان التركي، في جلسته الطارئة بحضور رئيس الوزراء: "إن عملية دحر الانقلاب سوف تدفع الأحزاب السياسية أكثر لإيجاد أرضية مشتركة لتعزيز الديمقراطية".

وهذا الموقف الشجاع والمشرف يُذكرُني بالموقف المشرف لزعيم حزب الوفد المصري مصطفى النحاس، حين اشتد الخلاف بينه وبين الملك فؤاد، وحل الأخير البرلمان الذى يغلب عليه الوفد في عام 1929، تسلل سراً محمد نجيب أول رئيس لمصر بعد ثورة يوليو/تموز 1952، وعرض عليه تدخل الجيش ومساندة الحزب لاقتحام البرلمان بالقوة، فرد النحاس: "أنا أفضل أن يكون الجيش بعيداً عن السياسة، وأن تكون الأمة هي المصدر الوحيد للسلطات"، كما جاء في كتاب "كنت رئيساً لمصر"، لمحمد نجيب.

وهكذا الشعوب والأحزاب والساسة الأحرار يقفون دائماً للدفاع عن الوطن، ويُراهنون على الديمقراطية، ضد الانقلابات العسكرية التي ذاقت منها بعض البلاد الويلات وسالت بسببها الدماء وعمَّ الفساد، وفي فنزويلا عام 2002 كان يومان من الانقلاب فقط هي المدة التي استطاع فيها قادة الانقلاب العسكري الصمود أمام المد الشعبي المتزايد، قبل أن يتم إلقاء القبض عليهم وعودة الرئيس هوغو شافيز إلى سدة الحكم مرة أخرى.

لقد وقف الشعب التركي بكل طوائفه المؤيدة والمعارضة، والأحزاب السياسية وقادتها، وقفة رجل واحد مع المبادئ والقيم، دفاعاً عن الديمقراطية والحرية، وحق الأمة في الاختيار، والدفاع عن أصواتهم ومكتسباتهم، والدفاع في الوقت نفسه عن الجيش ومكانه الطبيعي في الثكنات للدفاع عن الأوطان وحفظ حدودها ضد الأعداء، ولا شأن له بالسياسة والحكم.

فهل وصل الدرس الشعبي التركي إلى بقية الشعوب التي اغتصبها العسكر؟! وهل وضح لهم أن القيم والمبادئ أهم من الخصومات والمكايدات السياسية؟! وأن الحفاظ على الأوطان، وحماية اختيار الشعب أهم وأكبر من حماية المطالب الشخصية، والفئوية والحزبية، أرجو أن يكون الدرس قد وصل وتم استيعابه!
ولن ينسى التاريخ للشعب التركي وقفته وتضحياته من أجل وطنه ومبادئه، واختياراته، وديمقراطيته.

عاشت الشعوب الحرة الواعية المدافعة عن أوطانها واختياراتها، والموت للانقلابيين الخونة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد