محاولة لفهم الحدث التركي

لا شك أن أول من تصدى للانقلابيين وكسر شوكتهم وأفسد خطتهم هو الشعب الأعزل، إضافة إلى قوى الأمن الداخلي والمخابرات وكذلك شخصية الرئيس التركي التي لم تتزعزع ولم تنهَر، رغم كل المخاطر والضغوط، وعليه أن لا يتصور لحظة أن مقاومة الانقلاب لم تكن من أجل عيونه أو طموحاته الشخصية، بل جاءت كرهاً للعسكر الذي تسلط وأساء وتآمر على حقوق الشعب منذ عقود

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/18 الساعة 05:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/18 الساعة 05:23 بتوقيت غرينتش

المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة تكون السادسة منذ إعلان الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ودائماً كان الجيش على حق! بحسب البيان رقم واحد، وسيد الموقف المنتصر على السياسيين المدنيين الفاسدين، وحامي حمى نهج -كمال أتاتورك- القومي باني أول جمهورية تمجد العنصر التركي، وتتجاهل المكونات الأخرى، ورافع راية العلمانية أمام موجات المد الإسلامي، حقيقية كانت أم وهمية، إلا هذه المرة التي شكلت استثناء؛ حيث لم ينجح الانقلابيون، ولم يسمع عامة الناس ببيانهم الذي أطلقوا عليه كمحاولة لجلب الاهتمام (مجلس السلام)، بل سقطوا وتشتتوا وانهاروا منذ الساعات الأولى لأسباب كثيرة.

هناك خصوصية تركية تتميز عن نظيراتها من دول الشرق الأوسط: حكومة إسلامية في دولة علمانية آسيو – أوروبية وحتى إسلامية، الحكومة تختلف من حيث الشكل والمضمون والممارسة والوسائل عن إسلامية حكومة الإخوان المسلمين (سابقاً) في مصر، والحزب الحاكم الفائز في انتخابات ديمقراطية (ع ت) لم يعلن ولم يسعَ (إلا بصورة بطيئة تكاد لا تلاحظ) إلى أسلمة المجتمع أو أخونته، كما عمل على ذلك الرئيس المصري وحزبه عندما فاز بنسبة ضئيلة ومطعونة بصحتها أصلاً، كما أن حزب العدالة والتنمية التركي كأنه يجسد معاني الموقع الجغرافي لتركيا؛ نصف آسيوي يميل إلى التدين، ونصف أوروبي أقرب إلى سلوك الأحزاب المسيحية الديمقراطية التي لا تجسد القيم الدينية المعروفة، ولا تحمل أيديولوجيتها الكنسية قبل فصل الدين عن الدولة والسياسة منذ الثورة الفرنسية ونهضة أوروبا بشكل عام.

منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكومة منذ أكثر من عقد من الزمن كان واعياً لدور الجيش في الحياة السياسية التركية، ولم يضع في برنامجه مناطحة الجيش أو إزاحته من موقعه الطبيعي المتواصل منذ قيام الجمهورية، وهو التحكم من وراء الستار، ويخطئ من يظن أن الحزب الحاكم في صراع مع العسكر، بل بالعكس تماماً هناك اعتراف بدور الجيش القومي وحمايته للدستور، ونهج أتاتورك، وقبول لامتيازاته المتوارثة منذ عقود، وانسجام وتوافق على تقاسم السلطات، واتفاق على السياسات الخارجية والقضايا الداخلية، وخصوصاً القضية الكردية.

بعد اندلاع الثورة السورية اتخذت الحكومة التركية موقفاً داعماً لها، وفي المرحلة الأولى كانت تطمح، إلى جانب دولة قطر، إلى استثمار ثورات الربيع لمصلحة الإسلام السياسي، وخصوصاً أحزاب حركة الإخوان المسلمين، ولكن بعد هزيمة الإخوان بمصر وتراجعهم في تونس وانهيارهم وتحولهم إلى عصابات مسلحة في ليبيا، تضاءلت طموحات الحزب الحاكم في تركيا، وكانت هناك مراجعة لحساباتها منذ تشكيل الحكومة الجديدة قبل نحو شهر، ولكن خلال السنوات الخمس المنصرمة، وبسبب استعصاء الحل السوري، وتفاقم مخاطر (داعش) وظهور الدور الروسي على المسرح والتعاون بين واشنطن وموسكو والتباعد بين أنقرة ودول الناتو وبعد الاتفاق النووي الإيراني تزايدت أعداد الأطراف المعادية والمخاصمة لتركيا ودورها في المنطقة إلى درجة تمني البعض إزالتها دولةً وحكومةً.

وفي احتساب القوى التي يمكن أن تكون شريكة في الانقلاب الفاشل أو متمنية نجاحها لا بد من تشخيص الأطراف المناوئة لحكومة أنقرة، ففي الداخل هناك أحزاب المعارضة وضمنها حزب الشعوب الديمقراطية المحسوب على الكرد، التي وإن وقفت إلى جانب الشرعية بعد فشل الانقلاب، فإنها تسعى إلى إسقاطها بالطرق السلمية، وليس لها امتدادات تذكر ضمن صفوف الجيش، وهناك أيضاً المكون العلوي المناهض للحكومة، وله وجود فعلي ضمن الجيش والمؤسسات الأمنية، ومن غير المستبعد أن يكون لهؤلاء صلات مع أجهزة النظام السوري ومن خلاله، وحديثاً مع الأوساط الروسية العسكرية والأمنية الموجودة على الأراضي السورية وبالقرب من الحدود مع تركيا، وكذلك مع الجهات الإيرانية.

ولا نستبعد هنا فرضية أن جزءاً هاماً من الاتفاق النووي الإيراني كان لغير صالح تركيا لا على الصعيد الاقتصادي، ولا بما يتعلق باستراتيجية الدفاع والدور التركي في الشرق الأوسط، إضافة إلى اختلال التوازن في صراع السنة والشيعة المحتدم بحسب منظور ومفهوم الدول الحاكمة بالمنطقة، كما أن التقارب الأميركي – الروسي إلى حد التفاهم والتنسيق السياسي والعسكري حول سوريا موجّه في الأساس ضد تركيا وسياستها ومشروعها، وهذا ما دفع الأتراك إلى الإسراع في تحسين علاقاتها مع إسرائيل وروسيا، والتوجه لإصلاح ذات البين مع العراق وإيران وحتى سوريا النظام أو ما بعد الأسد، وقد ظهرت ملامح خلال الساعات الأولى للانقلاب تشير إلى ضلوع قوى خارجية أو معرفة بعضها واطلاعها على حدوث ذلك، كما أن الموقف الفرنسي والألماني لا يتسم بأدنى شروط الصداقة مع تركيا، بل يخترق المفاهيم الدبلوماسية واحترام سيادة الدول.

لا شك أن أول من تصدى للانقلابيين وكسر شوكتهم وأفسد خطتهم هو الشعب الأعزل، إضافة إلى قوى الأمن الداخلي والمخابرات وكذلك شخصية الرئيس التركي التي لم تتزعزع ولم تنهَر، رغم كل المخاطر والضغوط، وعليه أن لا يتصور لحظة أن مقاومة الانقلاب لم تكن من أجل عيونه أو طموحاته الشخصية، بل جاءت كرهاً للعسكر الذي تسلط وأساء وتآمر على حقوق الشعب منذ عقود، وكوفاء لشعب تركيا عليه رد الجميل وإحقاق الحقوق والتراجع عن طموحاته الإمبراطورية والبدء فوراً بإحياء العملية التفاوضية السلمية لحل القضية الكردية، والخروج مع حزبه نهائياً من أوهام الإسلام السياسي (الإخواني)، والمضي في دعم الشعب السوري ونصرة قضيته وثورته، حين ذاك سيتعزز موقع تركيا وستفشل كل المخططات المعادية من الداخل والخارج.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد