سيسيولوجيا الشعب التركي
مع دخولي العام الثالث من الحياة في مدينة إسطنبول التركية واختلاطي بالشعب التركي كانت ليلة الخامس عشر من هذا الشهر، يوم محاولة الانقلاب الفاشلة، ليلة مختلفة وغريبة لمواطن أجنبي مثلي تعوّد أن الشعب التركي يصحو مبكراَ وينام قبل العاشرة مساء.
امتلأت الشوارع فجأة بعد مناشدة الرئيس، ولم ينفض الشعب التركي عن الميادين حتى الآن، هذه المشاهد تعود بنا إلى الوراء كثيراً.
في تمام الساعة الواحدة من ظهر يوم الثاني عشر من سبتمبر/أيلول من عام ١٩٨٠ أعلن الجنرال كنعان أفرين سيطرة الجيش التركي على السلطة وإزاحة حكومة سليمان ديميريل، واعتقال القيادات السياسية المدنية وقادة بعض الأحزاب، مثل بولنت أجاويد وألب أرسلان وسليمان ديميريل ونجم الدين أربكان.
وتولى الحكم حتى إجراء انتخابات رئاسية في ١٩٨٣، وفاز بنسبة ٩٠٪، ثم عدَّل الدستور وحصَّن نفسه من المحاكمات بالمادة الـ١٥، وظل في الحكم حتى ١٩٨٩.
حصيلة حكم الجنرال كنعان أفرين:
اعتقال 650.000 شخص.
محاكمة 230.000 شخص.
517 حكماً بالإعدام.
299 حالة وفاة بسبب التعذيب.
انتحار 43 شخصاً.
قتل 16 أثناء هروبهم.
اعتبار الآلاف في عداد المفقودين.
إقالة 3654 مدرساً و47 قاضياً و120 أستاذاً.
إدراج مليون ونصف المليون مواطنٍ تركي في سجلات الأمن كمطلوبين أمنياً وخطر على الأمن القومي التركي، وفر 30 ألف شخص من البلاد.
من كان شاباً في مثل عمرنا وقت انقلاب ١٩٨٠ رأى بعينيه هذه الأرقام وعاش بنفسه هذه الأحداث، وسمع بأذنيه كنعان أفرين عام ١٩٨٤ وهو يقول عمن تم إعدامهم: "هل كان علينا أن نطعمهم في السجن لسنوات بدلاً من أن نشنقهم؟".
هذا الشاب أصبح اليوم كهلاً عجوزاً قد تجاوز الستين من عمره، عاش عمره يحكي لأبنائه وأحفاده أن هناك ما يسمى بانقلاب الجيش ودموية العسكر وبطش الدبابة وقصف الطائرات.
من ضمن النصف مليون معتقل في عهد كنان أفرين ربما عاش منهم الكثير ليومنا هذا وحكوا أيضاً لجيرانهم وزملائهم في العمل ويلات ما ذاقوه داخل سجون الانقلاب العسكري.
ومن ضمن الربع مليون مواطن تركي الذين حوكموا في عهد انقلاب كنان أفرين من عاش منهم ليحكي لكل مَن عرفه فساد القضاء تحت حكم العسكر وخوف المحامين من بطش الجنرال ورجاله، وأحكام جائرة قتلت زهرة شباب الشعب التركي.
ومن ضمن المليون ونصف المليون تركي الذين أدرجت أسماؤهم في كشوف المطلوبين أمنياً وأصبحوا مطاردين؛ لأنهم خطر على أمن الانقلاب العسكري، من ضمن هؤلاء من حكى لأبنائه عن سنوات الخوف، وحياة الشك، والشعور بأن الجميع يراقبك، وانتظار القبض عليك في أي لحظة.
ومن ضمن ثلاثين ألفاً هربوا من جحيم العسكر في تركيا مَن ألَّف كتباً عن الانقلابات العسكرية في تركيا، ووثقوا جرائم وآثار انقلاب أفرين على الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية في الجمهورية التركية.
استحضرت كل هذه المشاهد وأنا أشاهد ملايين الأتراك يندفعون أمام الدبابات العسكرية من مختلف الأعمار والأجيال، سواء مَن عاش منهم انقلاب أفرين أو مَن سمع حكايته ممن سبق ذكرهم.
الجميع نزل يحمي المستقبل ويرفض عودة الماضي.
فهذا كهل عجوز يجلس في أحد الميادين ولا يعبأ كثيراً بطائرة تحوم في الجوار، يصرخ قائلاً "عسكر لا تعيدوا إليّ آلام الماضي فقد عشت انقلاب الثاني عشر من سبتمبر".
وهؤلاء شباب صغير يهتفون في وجه قوات الجيش في ميدان تقسيم في إسطنبول: "عودوا إلى بيوتكم أيها العسكر".
وهنا مواطن تركي يحاول منع دبابة عسكرية من المرور ويقف أمامها بسيارته، وهناك مئات الشباب يجبرون دبابة عسكرية على التراجع أمام بوابة مطار أتاتورك.
تركيا الآن برئيسها، بقيادتها السياسية وحكومتها المنتخبة وأحزابها المجتمعة معاً رغم اختلاف المواقف، وإعلامها الذي كان له دور كبير رغم معارضته للرئيس.
بالإضافة لهذا الشعب الذي يملأ الميادين، الجميع هنا يدافع عن صفحات تاريخ يريدون كتابتها بأنفسهم لأجيال كثيرة قادمة، ويأبى الجميع أن تكتب هذه الصفحات بأوامر عسكرية.
الوعي هنا في التعلم من آثار الماضي، وزراعة مساوئ الانقلابات في عقل ووجدان الجميع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.