ليس مُستغرباً علينا أبداً أن يظهر الوزير كيري مُدافعاً عن زعيم العصابة الانقلابية في تركيا، المدعو فتح الله غولن، القابع ضيفاً على أسياده في واشنطن منذ أمد، عبر مطالبته الحكومة التركية بتقديم ما يثبت ضُلوعه في محاولة الانقلاب الفاشلة، لكن الغريب والمؤسف لدينا حقاً، كما والمخيِّب للآمال أيضاً، أن تحتاج المملكة العربية السعودية إلى أكثر من 15 ساعة، لتعلن عن موقفها الذي جاء باهتاً، على شكل ترحيب بعودة الأمور إلى نصابها بقيادة الرئيس أردوغان، في الوقت الذي كانت فيه إيران "الماهرة في أفانين المكر والخداع" قد سبقتها بإدانة الانقلاب، وبعبارات أكثر قوة، وأكثر وضوحاً.
كما أن الموقف الإماراتي، الذي بدا متشفياً ومتمنياً نجاح الانقلاب على الرئيس التركي، وعلى الحكومة الشرعية، والذي أبرزته تلك التغطية الإعلامية المحمومة لوسائل إعلام محسوبة عليه، أو مموَّلة منه، لم يكن بالغريب علينا أيضاً، خُصوصاً ونحن ندرك طبيعة العلاقات المتوترة بين أبوظبي وأنقرة، بسبب تناقض مواقفهما بشأن العديد من القضايا والملفات الساخنة في المنطقة، وبمقدمتها الانقلاب الذي حدث في مصر على الرئيس مرسي، المنتخب ديمقراطياً من الشعب.
لكن أن يأتيَ رد الفعل السعودي "بعد الهَنَا بسنة"، كما يقول المثل المصري، وعلى حدث كبير بهذه الضخامة، ويخصُّ دولة هامة بالمنطقة، يُفترض أنها الحليف الاستراتيجي الوحيد للمملكة، على الأقل في اللحظة الراهنة، والداعم الكبير لها في حربها المفتوحة داخل اليمن وسوريا، فهذا أمرٌ يصعب علينا فهمه بحال، وقد جاء مخيباً للآمال، مهما حاول البعض أن يضع له بعض الرتوش والمساحيق، أو يختلق له المبررات والأعذار.
نُدرك جيداً أن السعودية تعيش في اللحظة الراهنة أوضاعاً سياسية صعبة وحرجة، لا تسمح لها -ربما- بمزيد من المواقف السياسية الارتجالية، المتسرعة وغير المدروسة، خُصوصاً أنها لم تستطع الفِكَاك بعد من تبعات قرارها خوض حرب مفتوحة داخل اليمن، منذ ما يقارب العام ونصف العام، والذي كلفها ثمناً باهظاً ما زالت تدفعه إلى اليوم.
ربما كان مثل هذا الموقف المتردد من الجانب السعودي، أو "المُرتبك" بعبارة أكثر وضوحاً، ربما كان مقبولاً ومفهوماً في العهد السابق، عندما كانت سياسة الجفاء والقطيعة هي سيدة الموقف بين البلدين، أمَّا أن يحدث بعد كل ذاك التقارب الكبير، الذي شهدناه بين الرياض وأنقرة، خلال العامين الماضيين، وبعد كل ذلك التطور في العلاقات الثنائية بين البلدين، والذي وصل إلى حد التنسيق في الملفات الأمنية والعسكرية، وكاد يصل لما يشبه التحالف الاستراتيجي، بين أكبر دولتين إسلاميتين في بلاد المشرق، وهو ما تتوق له شعوب المنطقة بأسرها، وتشرئبُّ له أعناق المسلمين في أنحاء العالم، فذاك أمرٌ لم يعد اليوم مقبولاً على الإطلاق.
على السعودية أن تُدرك اليوم حجم مسؤولياتها جيداً، ليس تجاه شعبها وحسب، وإنما تجاه شعوب المنطقة ككل، كما عليها أن تعي تماماً بأنه قد بات لديها التزامات سياسية وأخلاقية لا يجوز الفِكَاكُ منها بحال، ولا التخلي عنها، تحت أي ظرف أو مبرر، مهما بلغ حجم جسامته وخطورته.
عليها أن تتحمل تلك المسؤوليات، التي أفرزتها طبيعة التغيرات الكبيرة، التي حدثت في سياساتها الداخلية والخارجية، كما أتت نتاجاً طبيعياً لقراراتها التاريخية الهامة، التي حدثت في عهدها الجديد، وأولها التدخل العسكري المباشر، لحماية أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، كما حدث في اليمن عبر "عاصفة الحزم".
المطلوب من السعودية اليوم مواقف تاريخية أكثر جُرأة وشجاعة، تتناغم وحجم مسؤولياتها تلك، وترتقي لمستوى تطلعات شعوب المنطقة والمشرق ككل، والتي لا تقبل مطلقاً البقاء في المنطقة الرمادية، ولا الانتظار حتى ينقشع الغبار، لتخرج لنا بعد ذلك ببضع كلمات تعود بأذهاننا إلى عُهود، طالما وصمتنا بالخزي وبالعار.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.