هناك مثل أميركي يقول: الله يحب المجرب (God loves a tryer)، ولعل الأتراك من أولئك المجربين الذين يحبهم الله؛ إذ لم تقف تجربتهم مع الديمقراطية انقلاباً بعد انقلاب.
نظرة تاريخية سريعة لتركيا بعد سقوط الخلافة تخبرك أنها لم تتوقف في طريق التقدم، بدءاً بالأب المؤسس مصطفى كمال أتاتورك ونظامه العلماني المتشدد المستشرف غرباً، ولعل التحديث التركي انطلق من مؤسسة الجيش، لكن الأحداث التالية في تاريخ تركيا تخبرنا أن المؤسسات الأخرى لم تُسلم الأمر كله للعسكر، بل نازعتهم ودافعتهم حتى حين.
تركزت العلمانية كمبدأ للدولة، وأصبح الجيش حامياً لها، لكن العلمانية في تعريف الجيش خرجت من الإطار السياسي لتفرض اجتماعياً على مجتمع له تقاليده الدينية المعروفة.
أربعة انقلابات شهدتها تركيا قبل حزب العدالة والتنمية، وثلاث محاولات انقلابية بعد صعود أردوغان ورفاقه للحكم، لكن كل هذا لم يغير من إيمان الأتراك بالديمقراطية كنظام للحكم.
كذلك، لم يلجأ الإسلاميون – وهم الذين عانوا الأمرّين من الانقلابات – للتمرد أو استخدام العسكر للوصول إلى السلطة متعللين باستحالة الحكم ديمقراطياً، بل فعلوا أكثر من ذلك وقبلوا بعلمانية الدولة وفق لاجتهادات لهم خاصة، بدأ الأمر بانقلاب الستينات في القرن الماضي الذي برره الجيش بالحفاظ على العلمانية وقام بإعدام رئيس الوزراء حينها عدنان مندريس بتهمة التخطيط لإقامة دولة دينية، كما أعدم وزير الخارجية والمالية أيضاً، ثم توالت الانقلابات في متوالية حسابية أساسها العشر سنوات، بنفس المبررات وتحت نفس اللافتة، الحفاظ على العلمانية، كان آخرها ما حدث لحزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان في ١٩٩٧، إذ استقال بضغط من الجيش وتم منعه من العمل السياسي بقرار من المحكمة الدستورية،
إذا هي أربع محاولات ديمقراطية يقوم الجيش بإجهاضها، ومع ذلك استمر الشعب في الخروج لصناديق الاقتراع، بل وتحدى العسكر بانتخاب الإسلاميين مرة تلو أخرى، كان آخرها في فوز العدالة والتنمية بانتخابات عام ٢٠٠٢ بعد انفصال أردوغان ورفاقه عن حزب الفضيلة الأربكاني كمحاولة للتجديد والتطوير وتبني سياسة واقعية تتيح للحزب التعامل المجتمع التركي بكل أطيافه وتطلعاته.
استوعب حزب العدالة والتنمية علمانية ليست بالتقليدية، تجعل من الدولة مكاناً لخدمة الناس غير مقيدة بالدِّين أو العرف، تلاقت إذن علمانية أتاتورك وخلفية العثمانيين الجدد الإسلامية في العمل لمصلحة الشعب ومعاشه، وهو ما شكل مركزية للحزب الجديد.
قصة التعلم استمرت جيلاً بعد جيل، في كل عشر سنوات تترسخ قيم الديمقراطية أكثر ثم يعيد الانقلاب تجديد المعاني في جيل جديد يحملها للذي يليه، بدأت تحديث الدولة في تركيا عسكرياً، ثم انتقلت المهمة تدريجياً لمؤسسات الشعب، لم يكن التحول يسيراً، بل احتاج خمسين عاما ليتعلم الأتراك ما تعنيه الديمقراطية، ثم إن التطور والتقدم لم يكن محصوراً على فئة في المجتمع دون الآخر، لم يتقدم اليسار دون اليمين، أو الليبراليون دوناً عن الإسلاميين.
تقدم الجميع متفقين على العلمانية والديمقراطية كقيم عليا للدولة، مما جعل ترسخ القيم أمراً وطنياً مجمعاً عليه وهنا تختلف تجربة الأتراك عن تجارب التحديث العربية، والاختلاف أكثر بينونة إن تمت المقارنة بين إسلاميي تركيا وإسلاميي الدول العربية، فيما عدا تجارب بعض الدول في المغرب العربي.
لم أرد الخوض في أسباب الانقلاب الأخير في تركيا أو فيمن قام به، لكني أردت أن أبين أن التجربة التركية اليوم أصبحت أكثر نضجاً بعدما تعلم الأتراك الدرس جيداً، صبرت أحزابهم السياسية كثيراً ليأتي هذا اليوم الذي يحمي فيه الشعب ديمقراطيته. تعلموا جميعهم، حكومة ومعارضة أن مصلحتهم المباشرة في أن تدار السياسة بصناديق الاقتراع لا بفوهات البنادق والدبابات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.